يتفاقم التوتر بين روسيا والغرب في ملفات عديدة ومناطق مختلفة، لكن يبقى الملف الأوكراني هو الأبرز إضافة إلى السوري، حيث ترغب موسكو في عدم تحويل هذا البلد الأوروبي إلى بولونيا جديدة تنضم إلى الحلف الأطلسي وتستضيف قوات أمريكية. بينما يرى الغرب في أوكرانيا دولة هامة لمحاصرة النفوذ الروسي الذي يتعاظم تدريجيا في القارة الأوروبية سواء عبر التسبب في مشاكل للدول أو التحكم في بعض الموارد مثل الغاز أو المناورات العسكرية الضاغطة.
ومنذ انفجار انتفاضة مايدن في أوكرانيا للمطالبة بإصلاح ديمقراطي سنة 2014 تحول ملف أوكرانيا إلى ملف المواجهة الرئيسية بين الغرب وروسيا طيلة السنوات السبع الأخيرة. وبلغ ذروته في أعقاب قرار موسكو ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا سنة 2014 بمبرر إجراء استفتاء في الإقليم الراغب في العودة إلى الوطن الأم روسيا.
وتاريخيا، تعد شبه جزيرة القرم أحد أسباب التوتر التاريخي خلال القرنين الأخيرين، بل ويعد هذا الملف الشائك وراء الخلاف التاريخي بين روسيا والغرب، وهذا قبل ظهور الاتحاد السوفييتي بعقود. وكانت حرب القرم ما بين سنتي 1853-1856 فاصلة في هذا الشأن، حيث جرت المواجهة بين روسيا ضد فرنسا وبريطانيا واليونان والامبراطورية العثمانية. واشتهرت تلك الحرب باستعمال تكنولوجيا جديدة مثل القطارات والسفن البخارية في نقل الجنود والمدافع الأكثر فتكا ثم استعمال التلغراف للتواصل وآلة التصوير لتخليد اللحظات.
أجندة موسكو الثلاثية
ويعد ملف القرم سنة 2014 السبب الرئيسي في عودة الحرب الباردة مجددا بين روسيا والغرب. وهذه الحرب تتجلى أو تتمحور في ثلاث نقط بالنسبة لموسكو وهي: عدم التساهل مع تهميش أو الاعتداء على المواطنين من أصول روسية في الجمهوريات السوفييتية سابقا، ثم عدم تكرار خطأ بولونيا والجمهوريات السوفييتية الغربية التي انضمت إلى الحلف الأطلسي، وأخيرا تفادي تفكيك الغرب لروسيا كما فعل مع الاتحاد الأوروبي.
ولمعرفة أعمق لسياسة روسيا في محيطها الحالي وخاصة الحدود الغربية، يجب إدراك طريقة تفكير ونفسية الرئيس فلاديمير بوتين والمحيطين به. فقد قدم أغلبهم من جهاز الاستخبارات الشهير «كا جي بي» أو من الجيش السوفييتي ووقفوا على انهيار الاتحاد السوفييتي وفقدان روسيا لوزنها العالمي إبان التسعينات.
وعلاقة بالعامل الأول، في مختلف الجمهوريات السوفييتية السابقة يوجد مواطنون من أصل روسي، ويشكلون نسبة هامة في بعض الجمهوريات مثل شرق أوكرانيا. وتحولوا إلى ما يعرف في الثقافة العربية بمسمار جحا، أي إلى مبرر وذريعة لكي تتدخل روسيا في جمهورياتها السابقة.
واقتصارا على أوكرانيا، فقد ضمت موسكو شبه جزيرة القرم بعد استفتاء لمتعاطفين مع روسيا، ويتكرر الأمر نفسه في منطقة دونباس التي يصفها الكثير بالمنطقة الحساسة جدا في العالم، لكونها قد تفجر مواجهة خطيرة بين روسيا والغرب.
وينتفض السكان من أصل روسي في هذه المنطقة ضد السلطة المركزية في أوكرانيا إلى مستوى إعلان جمهورية خاصة بهم منذ سنوات وهي «جمهورية دونيتسك الشعبية».
وتوجد مواجهات بشكل مستمر منذ سنة 2014 وخلفت مقتل 14 ألف شخص وإن كانت قد قلت حدتها مؤخرا. لكن خطر انفصال شرق أوكرانيا والانضمام إلى روسيا غير مستبعد نهائيا، وقد يحدث في أي وقت تتفاقم فيه الأوضاع الأمنية والعسكرية.
ويقول أنصار الانضمام إلى روسيا أنهم لا يرغبون في أوكرانيا تتحكم فيها السفارة الأمريكية في كييف. وتعمل الجمهوريات السوفييتية السابقة مثل لتوانيا على عدم مضايقة مواطنيها من أصول روسية لنزع ذريعة أي تدخل مباشر لموسكو مستقبلا في الشؤون الداخلية لهذه الجمهوريات.
وصادق البرلمان الروسي مؤخرا على قرار يسمح للحكومة بمنح الجنسية وجواز السفر للمواطنين من أصول روسية تعيش في الجمهوريات السوفييتية السابقة مع تأكيد على شرق أوكرانيا.
ولا ترغب روسيا في تحول أوكرانيا إلى بولونيا جديدة. وأصبحت بولونيا دولة مواجهة مع روسيا خلال العقدين الأخيرين، وهي الأكثر تطرفا حتى مقارنة مع دول غربية مثل بريطانيا في سياستها ضد الكرملين. وذلك من خلال احتضانها للقوات الأمريكية والأطلسية، ثم تأييدها لكل المبادرات السياسية الغربية التي ترغب في فرض عقوبات على موسكو.
وكان وزير الدفاع البولندي ماريوز بلاسزاك قد صرح خلال شباط/فبراير الماضي بضرورة رفع التواجد الأمريكي في بولونيا وتحول هذا البلد إلى قيادة الحلف الأطلسي شرقا لأن ذلك سيكون عامل ردع ضد طموحات روسيا في المنطقة.
وتابع قوله «القوة الغازية (روسيا) ستدرك أن خرق الحدود البولونية يعني نزاعا شاملا. تواجد القوات الأمريكية هي ضمانة بأن الهجوم على بولونيا هو هجوم على الحلف الأطلسي».
وعلاقة بالعامل الثالث المشار إليه، يسيطر وسط الإدارة الروسية الحالية هاجس الخوف من تمزيق روسيا على يد الغرب كمرحلة ثانية ضمن مخططات الغرب بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي.
وتبرز دراسات صادرة عن مراكز تفكير استراتيجي في الولايات المتحدة وبريطانيا أن الاستقرار الأوروبي والتوازن الجيوسياسي سيحدث أو سيتحقق بشكل تاريخي عندما سيتقلص وزن روسيا جغرافيا وبالتالي سياسيا وعسكريا من خلال انبثاق جمهوريات جديدة عنها.
ويكون الغرب الروسي مرتبطا اقتصاديا وثقافيا بأوروبا والغرب أكثر من ارتباطه بموسكو. وهذه نقطة حساسة لدى إدارة الكرملين في رؤيتها للغرب. وبدورها تبرز مراكز التفكير الروسي هذا الهاجس، وفي المقابل ترى في تعاظم نفوذ روسيا خارج حدودها الغربية واتجاه جمهوريات حلف وارسو سابقا الضمانة الحقيقية لتفادي هذا السيناريو مستقبلا.
أوكرانيا لن تصبح بولونيا جديدة
وبدل نهج سياسة سلفه بوريس يلتسن الذي تساهل مع توسع الحلف الأطلسي نحو جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا، يتبنى فلاديمير بوتين القادم من «كا جي بي» سياسة استباقية وهجومية.
ويحذّر الدول المحيطة والغرب أساسا من مغبة استفزاز الدب الروسي. وعاد خلال الأسبوع الماضي بمناسبة خطاب الأمة إلى رسم خطوط حمراء واضحة لا يمكن لأحد تجاوزها في تعامله مع روسيا.
وشدد بوتين على الخطوط الحمراء وعيا منه بسياسة الرئيس الأمريكي الجديد بايدن الذي عاد لتصنيف روسيا عدوا عكس سياسة سلفه دونالد ترامب الذي كان ينادي بالتفاهم والحوار مع روسيا لمواجهة الصين.
وهكذا، في ظل التوتر، تشدد واشنطن هذه الأيام على ضرورة إدماج أوكرانيا في منظمة شمال الحلف الأطلسي. وكان الرئيس الأوكراني زلينسكي بدوره قد شدد بداية نيسان/أبريل الماضي على الانضمام إلى هذه المنظومة العسكرية. وكتبت جريدة «لوموند» الفرنسية مؤخرا بأن أوكرانيا قد وجدت في الولايات المتحدة «الأخ الأكبر» بعد فوز بايدن للدفاع عنها في مواجهة الروس.
وأمام سياسة بايدن الجديدة بعدما وصل به الأمر إلى وصف بوتين «بالقاتل» وأمام استعادة كييف لغة الصدام، فقد قامت موسكو بتجميع قوة عسكرية هائلة بالقرب من الحدود الأوكرانية ووضعت جزءا هاما من أسطولها الجوي في القواعد العسكرية القريبة من هذا البلد لتحييده عسكريا في ظرف أيام إذا اندلعت المواجهات أو قامت الحكومة المركزية باقتحام شرق البلاد، حيث يتجمع أنصار روسيا والمطالبون بالانضمام إليها مثل دونيتسك ولوغانسك.
وبررت موسكو هذا الحشد العسكري الهائل بمناورات عسكرية خلال منتصف نيسان/أبريل الماضي. وبدورها أجرت أوكرانيا مناورات خلال الأسبوعين الأخيرين على الحدود مع شبه جزيرة القرم تهدف إلى مواجهة أي غزو روسي. وانتقل وزير الدفاع الأوكراني أندري تيران مؤخرا إلى بروكسل محذّرا من مغامرة روسية ضد بلاده.
ويوجد تخوف حقيقي لدى الغرب من احتمال إقدام روسيا على غزو أوكرانيا أو جزء منها. ولا يرتبط هذا بالوضع المتوتر في الوقت الراهن بل إلى أطروحة روسيا بأن أوكرانيا دولة ما كان لها الانفصال عن روسيا إبان تفكك الاتحاد السوفييتي، وبالتالي تعمل على كيفية استعادتها مستقبلا ولو بارتباط فيدرالي. وبالتالي، قد تستغل أي أزمة سياسية-عسكرية لتنفيذ المخطط، مثل الأزمة الحالية.
ونتيجة هذا التخوف، تتعدد العقوبات والتحذيرات الغربية تجاه كل خطوة تقوم بها روسيا. وفي هذا الصدد، صادق البرلمان الأوروبي هذا الأسبوع على قرار يدعو في حالة غزو روسيا لأوكرانيا على تجميد استيراد البترول والغاز الروسي، وفك ارتباط روسيا بنظام سويفت المالي البنكي العالمي وتجميد أموال رجال الأعمال الكبار المقربين من موسكو وتجميد منح التأشيرات للروس.
بوتين يتحكم بلعبة الشطرنج الدولية
عمليا، تعترف معظم التحاليل بما فيها الصادرة عن مراكز التفكير الاستراتيجي الأمريكي بالوضع الصعب للغرب في ملف أوكرانيا لأسباب متعددة منها:
في المقام الأول، إذا قررت موسكو غزو أوكرانيا، فمن جهة، لن يصمد الجيش الأوكراني في مواجهة الآلة العسكرية الروسية، ومن جهة أخرى، لن يستطيع الغرب التدخل العسكري.
وكان تقرير للبنتاغون قد اعترف بهشاشة الجيش الأوكراني في مواجهة الجيش الروسي. ويتوفر الجيش الأوكراني على عتاد سوفييتي قديم ولم يقتن أسلحة غربية متطورة.
في المقام الثاني، سيراهن الغرب على العقوبات الاقتصادية، وقد جرب هذه الاستراتيجية بدون أن تنجح في ردع روسيا لأن الاقتصاد الروسي أصبح مرتبطا بمناطق دول أخرى أكثر من الغرب وخاصة بالاقتصاد الصيني.
في المقام الثالث، الاختلاف الحاصل وسط الغرب تجاه الملف الأوكراني-الروسي. في هذا الصدد، هناك الموقف الأمريكي الذي يحظى بتأييد فرنسا وجمهوريات أوروبا الشرقية ويدعو إلى التصعيد واعتبار روسيا العدو. وهناك موقف ألمانيا وبعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا التي تراهن على الاعتدال والحوار وعيا منها بصعوبة الانتصار على فلاديمير بوتين في الصراع الحالي.
في المقام الرابع، حاجة أوروبا إلى موارد الطاقة الروسية من غاز وبترول لاسيما بعد الانتهاء من تشييد أنبوب الغاز الجديد الذي ينطلق من روسيا إلى أوروبا. وتعد ألمانيا من أشد المتحمسين للغاز الروسي لسهولة استيراده والأكثر رفضا لاستيراد الغاز الأمريكي.
ويحول اعتماد أوروبا على الغاز الروسي دون ارتفاع تطرف سياسة أوروبا تجاه موسكو. وتشدد واشنطن على فك الارتباط الطاقوي حتى لا تبقى أوروبا في قراراتها تجاه روسيا رهينة الغاز، لكن بدون جدوى.
وتدرك روسيا وجود عائق أمام تشدد أوروبا، إذ يوجد تخوف لدى الغرب من أن التصعيد إلى مستويات خطيرة مع روسيا سيساهم في مزيد من التنسيق الروسي-الصيني، وسيعمل على تسريع وتيرة التكامل العسكري مثل بناء حلف بشكل رئيسي ورسمي.
في غضون ذلك، تحافظ أوكرانيا على طابعها الاستراتيجي، أي منطقة نزاع تاريخي بامتياز، وهي الآن ساحة الحرب التي تنتقل من الباردة إلى الملتهبة. وتذهب مختلف التحاليل إلى استبعاد غزو روسيا لأوكرانيا، ولكن لا تستبعد إقدام موسكو على مغامرة ضم أقاليم شرق أوكرانيا إليها كما فعلت مع شبه جزيرة القرم سنة 2014. وبدأ النجاح الروسي يتجلى في إقناع الغرب بوقف توسيع الحلف الأطلسي نحو حدود روسيا، وبعبارة أخرى أوكرانيا لن تصبح بولونيا جديدة.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
القدس العربي
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022