كتبها: د. أمين القاسم- القرم
عندما دخلت الشعوب التركية - ومنهم تتار القرم - في الإسلام أقبلت على الدين الحنيف بحب وإخلاص وحماسة وهذا إنعكس إيجابا على نشاطهم الدعوي في نشر الإسلام والدعوة والجهاد وعلى نشاطهم العلمي بالكتابة والتأليف.
وكان من إقبالهم على الإسلام اهتمامهم بالفرائض والسنن والآداب، ومن هذه الأركان فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وقد حرص تتار القرم رغم كل الصعوبات والمعوقات على أداء هذه الفريضة والإلتزام بها على مر السنين.
ومع دخول الإسلام إلى الأراضي الأوكرانية مع القرن العاشر الميلادي، بدأ المسلمون بالتواصل مع العالم العربي والإسلامي وزيارة الأماكن المقدسة في القدس ومكة والمدينة.
وتذكر المصادر التاريخية أن عدد من الخانات (السلاطين) والأمراء الذين حكموا القرم قاموا بأداء فريضة الحج منهم: الحاج كراي الأول (1397-1466م) أول خانات القرم أدى فريضة الحج إلى مكة مع أحد أقاربه الذي كان يعيش في ليتوانيا، وذلك قبل اعتلائه عرش الدولة عام 1441م.
وفي عام 1524م قام حاكم قازان ثم القرم الخان صاحب كراي (1501-1550م) بأداء فريضة الحج عن طريق اسطنبول وقد أناب مكانه في الحكم أحد أقاربه صفا كراي.
ويذكر المؤرخون أيضا أن خان القرم الحاج سليم كراي الأول (1631-1704م) قام بالحج إلى مكة أيضا.
واستمر مسلمو القرم في أداء فريضة الحج رغم احتلال الدولة القصرية الروسية لأراضيهم، خاصة وأن اتفاقية "كوجك قينارجه" التي وقعت مع الدولة العثمانية عام 1774م، والتي تخلت فيها الدولة العثمانية عن القرم كانت تنص على حرية ممارسة الشعائر الإسلامية وقيام شيخ الإسلام في اسطنبول بتنظيم الشؤون الدينية للقرم.
في عام 1855م أصدرت السلطات الروسية جوازات سفر، وكان الحجاج المسلمون من روسيا والقرم يحملون بطاقات ووثائق تبين سبب السفر للخارج.
وتبين الباحثة في كلية الحضارة بجامعة الإبداع الوطنية في القرم لويزي بابوفنيكوفي أن : "الراغبين في الحج إلى مكة من تتار القرم، كان من حقهم امتلاك جوازات سفر لذلك".
وقد جاء في المجلد 14 من كتاب "مجموعة قوانين" في الباب المسمى (اقرار جوازات السفر) طبعة سنة 1890م جاء مايلي: "المادة 237- التتر من القرم المسافرون إلى الحج يتعين عليهم أن يقدموا للرئاسة المحلية كفالة من المشاعيات التي ينتمون إليها تفيد بعدم وجود عوائق تحول دون سفرهم وتفيد أن شؤونهم الإقتصادية لن تختل من جراء ذلك، وأن دفع الرسوم وكذلك أداء سائر الفروض مؤمنان.
تتأكد الرئاسة المحلية من مأمونية الكفالة المعنية وتبلغ بذلك رئاسة المحافظة التي تمنح المسافرين جوازات السفر بموجب المادة 214 ".
ومن خلال البحث والمطالعة في المصادر نجد اهتمام للسلطات الروسية بموضوع الحج وخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فقامت بعدة أعمال في سبيل مراقبة وتنظيم الحج وأمور الحجيج المسلمين من روسيا فقد قامت عام 1890م بافتتاح أول قنصلية لها في مدينة جدة، وكان أول قنصل هو التتري "شيخ مراد ميرسافيتش".
ثم ابتعثوا ضابطا مسلما اسمه "عبد العزيز دولتشين" إلى الحج عام 1898م، لكي يأتي بتقرير مفصل للسلطات عن أوضاع الحجيج من مسلمي روسيا والدول الأخرى، ويطلع على إمكانيات تلك البلاد الإقتصادية والعسكرية ويدرس وضعها الجغرافي والسياسي وحتى الصحي، ويرفع توصيات بذلك إلى الحكومة، وتم اختياره لعدة اعتبارات منها أنه عسكري يعرف عدة لغات (التركية والفارسية والإنجليزية وغيرها) وخدم في عدة مناطق روسية يتواجد فيها المسلمون مما أتاح له الإطلاع على عاداتها وتقاليدها وكان لديه علاقات مع عدة شخصيات روسية وإسلامية محلية.
وقد جمع ماكتبه فيما بعد في كتاب تحت عنوان "الرحلة السرية للضابط الروسي عبد العزيز دولتشين إلى مكة المكرمة 1898-1899م".
ويعود رصد السلطات الروسية لظاهرة الحج لعدة أسباب منها :
1- تعاظم دور العامل الإسلامي في سياسة روسيا الداخلية والخارجية، فقد بلغ عدد المسلمين في الإمبراطورية الروسية مع نهاية القرن التاسع عشر 16 مليون نسمة.
2- كثرة عدد الراغبين لأداء هذه الفريضة عاما بعد عام، فمن تقرير القنصل الروسي في جدة نجد أن متوسط عدد الحجاج من رعايا روسيا 8-10 الآف شخص في السنة، علما بأنه في سنة 1901م أعطى الرقم 6000 حاج وفي سنة 1902م الرقم 16000 حاج وفي سنة 1903م الرقم 4741 حاجا.
3- أخذت قضية الحج تكتسب المزيد من الأهمية حيث كان الكثير من المسؤولين الروس يعتبر الحج ليس ظاهرة ذات طابع ديني فقط بل ظاهرة سياسية أيضا، إذ أصبحت سبيل لتسريب أفكار مشروع الجامعة الإسلامية إلى روسيا (وفيها دعى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني إلى وحدة المسلمين في العالم).
4- كان الحج قناة بالغة الشأن لإيصال مخطوطات وكتب الشخصيات الإسلامية الكبيرة إلى الأراضي الداخلة في قوام الأراضي الروسية بما فيها القرم، الأمر الذي كان ييسر فعلا تبادل الأفكار والنظرات في العالم الإسلامي ويثير مخاوف السلطات الحاكمة الروسية.
5- اعتبرت ظاهرة هامة بالنسبة للسلطات الروسية من حيث عواقبها على الصعيد الصحي الوبائي إذ أن أداء فريضة الحج، كان محفوفا في ذلك الوقت بخطر نقل أوبئة متعددة كالطاعون والتيفوئيد (الزحار) والكوليرا وغيرها إلى الأراضي الإمبراطورية.
في أواخر القرن التاسع عشر، تكونت ثلاث طرق رئيسية لحج المسلمين من رعايا الدولة الروسية :
الطريق الأول: من منطقة القفقاس وماوراءه عبر ايران والعراق إلى المدينة ومكة ويعبره الداغستان والشيشان والشركس وغيرهم.
الطريق الثاني:عبر سمرقند وبخارى إلى أفغانستان فبومباي في الهند ومنها بحرا إلى جدة وينبع ويسلكه البخاريون والتركستان والقرغيز وغيرهم.
الطريق الثالث: عبر اوديسا وسيفاستوبل وأحيانا فيادوسيا عبر البحر الأسود إلى اسطنبول ثم السويس وجدة وينبع، كذلك شرعوا يستغلون السكة الحديدية الجديدة عبر فيينا واسطنبول.
هذا ويعتبر الطريق الأخير هو الأسهل والأقصر، ويستفيد منه تتار قازان والقرم والمسلمون القاطنون في أوكرانيا وبيلاروسيا وليتوانيا وبولندا وأحيانا لبعض مسلمي آسيا الوسطى.
ويخضع هذا الطريق للمراقبة الشديدة بالنسبة لحمل جوازات السفر وخلو المسافرين من الأمراض المعدية.
وتشير المصادر إلى أن الحجاج من رعايا روسيا كانوا يفضلون، استعمال جوازات السفر التركية والفارسية والبخارية القديمة، وحتى جوازات السفر الصينية. ومرد ذلك إلى التعقيدات البيروقراطية التي كانت ترافق الحصول على جوازات السفر في روسيا، وإلى المنع الدوري للسفر إلى الحج نظرا لخطر الأوبئة في الشرق. مثلا منعت السلطات الروسية الحج: في سنوات 1892-1895م، ومنذ النصف الثاني من سنة 1896 إلى سنة 1900م).
ونلاحظ في الوثائق الروسية أن مطوفي وأدلة ووكلاء الحج كان يحددهم القنصل الروسي في جدة، وأن كل واحد منهم مسؤول عن قومية معينة كوكيل حجاج داغستان ووكيل الشركس ووكيل القرغيز وتتر قازان وهكذا.
أما بالنسبة لتتار القرم فتكشف الوثائق (وذلك بموجب تقرير القنصل في جدة عن سنة 1893م) أن أدلة ووكلاء الحج في ذلك العام: في مدينة جدة الشيخ حسين من مدينة طرابلس، وحميد بحري الجدي، ومحمد صالح بانغاش، وفي مكة عباس عبد الرفاشين، ورجل من عائلة سناني (من مكة)، وكان من حق هؤلاء الوكلاء القدوم إلى أماكن سكن هذه القوميات في روسيا للدعاية وعرض خدماتهم على الراغبين بالحج.
ويذكر أن عدد من الحجيج القرميين وخلال عدة سنوات استوطنوا في الأماكن المقدسة بعد أدائهم الشعائر وذلك في مدن القدس (يوجد حاليا حي باسم القرمي) وفي مكة والمدينة ولاتزال عدة عائلات هناك تحمل لقب القرمي.
ويذكر أن الحجاج القادمون من المناطق الروسية والقرم كانوا يعانون كثيرا خلال هذه الرحلة الطويلة والمرهقة ويتعرضون لصنوف الأمراض والمحتالين وقطاع الطرق.
فهذا الحاج سليم غيري سلطانوف من محافظة أوفا ببشكيريا يذكر في مذكراته (المحفوظة في مكتبة سان بطرسبوغ لمعهد الإستشراق) وذلك خلال رحلة الحج عام 1893م ذكر مايلي: "كان معنا اثنان من تتار القرم مرض أحدهما فوضعوه في المستشفى، وبما أن رفيقه كان على يقين بأنه لامخرج من المستشفى غير مخرج واحد هو الطريق إلى القبر، وبما أنه افترض أن رفيقه لم يعد بحاجة إلى أمواله، فقد أقام ضربا (نوعا) من بيع بالمزاد العلني وباع كل أمتعته، ولكن المريض، شفي بعد 13 يوما وخرج من المستشفى ووجد أن كل أمتعته انتقلت إلى أناس آخرين، وبقي بدون أي لباس تقريبا".
ومع ارهاصات ثورة أكتوبر عام 1917م تعاون المسلمون الخاضعون للسيطرة الروسية ومنهم تتار القرم وخاصة المثقفون بينهم تعاونوا مع الأحزاب الروسية المعارضة لحكم القياصرة، ورحبوا فيما بعد بانتصارها.ولكن بالمقابل استثار نشاطهم حذر السلطات الرسمية وارتيابها، وانتقاد وغضب الشوفينيين المفعمين بروح الدولة الكبرى.
وقد جعلت سياسة ستالين المعادية للدين من المستحيل عمليا على أغلبية السكان المسلمين- ومنهم القرميون-لا الحج وحسب، بل أيضا أداء الشعائر الدينية اليومية والأسبوعية، وقامت حملة دعائية حادة ضد الدين.
وقد قام الملك فيصل بن عبد العزيز (وكان وقتها وزيرا للخارجية السعودية) بزيارة إلى الإتحاد السوفيتي عام 1932م، وطرح خلال الزيارة موضوع سفر الحجاج المسلمين في روسيا واستعداد المملكة لتأمين كافة احتياجاتهم وحدد عدد من 10-15 ألف حاج سنويا، ولكن السلطات الشوعية أهملت هذا الأمر ولم تأخذ به.
ورغم ذلك فإن تتار القرم الذين هجّروا قسرا إلى تركيا خلال ثلاثة قرون، والذين يقدرعددهم بين 4-5 مليون، استمروا بالسفر إلى الحجاز لأداء مناسك الحج.
في أوائل عام 1945م استؤنف حج المسلمين من الإتحاد السوفيتي، وكان يحج كل سنة 20-25 شخصا فقط وبقي الأمر كذلك حتى عام 1989م، وفي السنوات ال 45 المنصرمة، قام بالحج ما مجموعه 850-900 شخص الأمر الذي لايتطابق أبدا مع مجمل عدد المسلمين في أراضي الإتحاد السوفيتي.
وفي عام 1990 وصل إلى جدة 1525 حاج على متن طائرات خصيصا من شركة "ايروفلوت" السوفيتية.
واليوم وبعد استقلال أوكرانيا وعودة تتار القرم إلى موطنهم يقوم المئات من مسلمي أوكرانيا بأداء الحج والعمرة كل عام، ولاتزال عدة عائلات قرمية تترية تحمل أسماء أجدادها الذين قاموا بفريضة الحج مثل: أجي عثمانوف، أجي أسانوف، وأجي أميتوف وغيرها.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
أوكرانيا برس
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022
التعليقات:
(التعليقات تعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس")