لم يكن الحج مجرد فريضة بالنسبة لملايين المسلمين في أوروبا الشرقية وأجزاء من آسيا الوسطى، بل كان كذلك حلما لا يستطيعون إليه سبيلا، ولمدة تقارب القرن أو تزيد.
ضيقت الإمبراطورية الروسية الخناق في نهاية القرن التاسع عشر على المسلمين الراغبين بالحج في الدول التي خضعت لسيطرتها، وأعدادهم كانت تقدر بنحو 20 مليونا.
وبقيام الاتحاد السوفيتي في عشرينيات القرم الماضي زاد الخناق على رغبة المسلمين بالحج، فحارب الديانات ومظاهر التدين عموما، ومنع السفر لمقاصد دينية أو حتى فكرية تخالف نظريات الشيوعية الحاكمة.
عشرات فقط
ويشير مؤرخون ورجال دين إلى أن الحقبة السوفيتية كانت الأقسى على مسلمي أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى من حقبة الإمبراطورية الروسية، حيث لم يتمكن من أداء الحج إلى العشرات فقط خلال 70 عاما.
وحول هذا الأمر، قال د. أمين القاسم الباحث والمؤرخ إن الإمبراطورية اعتبرت الحج ظاهرة سياسية إلى جانب كونها دينية، وخشيت انتشار الأفكار الداعية إلى "وحدة المسلمين" بين دولها ذات الغالبية السكانية المسلمة، كأوزباكستان وطاجاكستان وغيرها من دول القوقاز.
ويضيف القاسم أن الإمبراطورية صعبت إجراءات السفر للحج على المسلمين فيها لذرائع صحية وأمنية، ما أدى إلى تراجع أعدادهم إلى نحو 4 آلاف في تسعينيات القرن التاسع عشر، ووصلت إلى بضعة مئات مع نهايته، بينما كانت تزيد قبل ذلك عن 20 ألفا.
ويشير القاسم إلى أن الاتحاد السوفيتي زاد الخناق على رغبة الحج، فمنعه منعا باتا، وخاصة في عهد الزعيم ستالين، حيث لم يستطع أداءه أكثر من 20 – 25 شخصا سنويا فقط، وذلك رغم تدخل المملكة العربية السعودية لدى سلطات الاتحاد لزيادة الأعداد إلى 10 – 15 ألفا سنويا.
ويشير الشيخ سعيد إسماعيلوف مفتي الإدارة الدينية لمسلمي أوكرانيا "أمة" إلى أن الـ 20 – 25 شخصا التي كانت السلطات السوفيتية تسمح لهم بالحج هم "رموز دينية موثوقة"، كان انتماؤهم للنظام وأجهزته الاستخباراتية أكبر وأقوى من الانتماء للإسلام.
حكايات وألقاب
وبسبب هذا الحرمان الطويل، انتشرت بين مسلمي بعض هذه الأجزاء من العالم قصص وحكايات كثيرة عن الحج ورحلاته وحتى مغامراته، كما انتشرت ألقاب خاصة بعائلات من استطاع أن يحج من أفرادها.
زرنا عددا من كبار السن في إقليم شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا، الذين أدوا فريضة الحج بعد الاستقلال عام 1991، واستمعنا منهم إلى بعض تلك الحكايات التي شاعت خلال الحقبة السوفيتية.
يقول الحاج صبري أجي أسانوف (75 عاما) إن حكايات الحج كانت الأكثر تشويقا وإثارة في طفولته، ولكنها كانت تحتوي على كثير من الأساطير والمغامرات والخرافات خلال طرقه الطويلة المختلفة، وخاصة عبر أفغانستان والهند ثم بحرا إلى الحجاز.
لكنه اعتبر أن تلك الحكايات حببت إلى الأطفال الإسلام، وشوقتهم لزيارة الكعبة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، في ظل المنع والحرمان الذين كانا قائمين.
ويشرح الحاج صبري اسم عائلته "أجي أسانوف" (الحاج حسان)، فيقول إن مصدره هو جده حسان، الذي حج قبل قيام الاتحاد السوفيتي، فسميت اسم عائلته باسمه "تبركا".
ويعبر الحاج عبد الرشيد (77 عاما) عن مشاعره بعد أن حج قبل عدة أعوام، فيقول: "لقد كانت رحلة عمري التي لن أنساها، كانت حلما تحقق رغم كبر العمر، زرت خلالها مقدسات المسلمين وأرض حكايات أبي وأمي، والتي أحكيها اليوم بدوري لأحفادي".
رحلة الحج
دارت الأيام واختلفت الأحوال، وبات من الممكن لأي راغب من مسلمي أوكرانيا أو غيرها الذهاب لأداء الفريضة، ولكن التاريخ بقي حاضرا في نفوس الحجاج، وخاصة ممن لم يستطيعوا الحج قبل الاستقلال.
يجتمع حجاج القرم من التتار المسلمين (وعددهم يقارب 100 من أصل 165 يتوجهون إلى الحج في هذا العام) في المركز الثقافي الإسلامي بمدينة سيمفروبل للانطلاق إلى كييف ضمن رحلة الحج، وبحضور المودعين ووسائل الإعلام، وحتى بعض المسؤولين في الدولة.
يقول الشيخ حيد (60 عاما): "لم تعد الأمور معقدة وصعبة كما كانت، فثمة تسهيلات كثيرة، ومنح مجانية أحيانا للراغبين، منن لم يستطيعوا الذهاب سابقا، ويمنعهم الفقر حاليا".
ويضيف: "خلال ساعات قليلة سنصل إلى المدينة المنورة من العاصمة كييف مباشرة، بينما كان أجدادنا يقضون عدة شهور في الطريق، ويتعرضون خلاله لمختلف أنواع الأمراض والمشقات، وكثيرا ما كانت أعمارهم تنتهي في طرق الحج".
وعن أولئك المحرومين، تقول كريمة (30 عاما) إنها وزوجها ينويان الاعتمار عن والديهما وغيرهما ممن لم يستطيعوا الحج وتمنوه، ثم حالات ظروفهم الصحية أو الموت دون تحقيق ذلك، مشيرة إلى أن ذلك بات عادة، في إطار الوفاء والشعور بالواجب.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
أوكرانيا برس - الجزيرة نت
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022