ترامب,فانس, وزيلنسكي, حادثة البيت الأبيض… الاسباب و المآلات

نسخة للطباعة2025.03.01
عبد الرحمن عكل

لا شك أن ما حصل البارحة في البيت الأبيض بعد زيارة الرئيس الاوكراني زيلنسكي ولقائه مع كل من ترامب وفانس ادهش العالم! لم يتوقع احد هذه المشاهد! لم يتوقع احد ان تتحول السياسة الدبلوماسية الرصينة الى مشادة كلامية حادة بين الطرفين انتهت بطلب الرئيس الامريكي الرئيس الأوكراني أن يغادر البيت الأبيض!

المقدمات

الحقيقة أن ترامب وفريقه الاعلامي ومنذ بدأ الانتخابات كان دائما يؤكد على انه الرجل الذي سيصنع السلام في واحدة من اعقد القضايا العسكرية في هذا القرن, وقد كان الكثيرون يسألون عن سبب ثقته في أنه سيجلب السلام لكافة الاطراف ليكون الجواب دائما انه يعرف بوتن ويعلم كيف يتحدث معاه, من هذه النقطة تحديدا ننطلق ففيها اقرار مسبق من ترامب بأمر بديهي للجميع هي أن الحرب بدأها بوتن ووحده ينهيها! فالحرب الروسية الأوكرانية هي هجوم روسي على الأراضي الأوكرانية بالتالي الطريقة الوحيدة لايقاف الحرب هي ايقاف هذا الهجوم! مما يعني بالضرورة ان ايقاف الحرب يعني تفاهم بطريقة او بأخرى مع بوتن! خطة ترامب سابقاً كانت انه ومن خلال معرفته السابقة لبوتن سيجد طريقة يغري فيها بوتن ببعض المكاسب ويتفاوض معه على حل وسط! لكن ما لم يكن يعلمه ترامب هو انه على الرغم من ان بوتن بالفعل شخص براغماتي يمكن التفاوض معه الا ان قضية اوكرانيا بالنسبة له هي جوهرة التاج الروسي وانه قد قرر بالفعل ان أوكرانيا بالكامل هي أرض روسية وهذا سيجلب المجد لاسمه كامبراطور! هذه رؤية بوتن الذي كررها في الصالات المغلقة مع سياسي اوربا وكررها في مقابلة تاكر كارلسون! ببساطة! لا يوجد أوكرانيا عند بوتن! بمعنى أخر الطريقة الوحيدة التي ينتهي فيها الغزو الروسي لأوكرانيا هي استسلام أوكرانيا!
هل هذا يعني ان بوتن طلب من ترامب تسليم أوكرانيا بالكامل؟ لا ليس بالضرورة! بوتن يدرك انه اليوم غير قادر على احتلال اوكرانيا فاذا الهدف التفاوضي كان تثبيت حكم روسيا على كافة الاقاليم المحتلة من جهة بل وربما ارغام اوكرانيا على تسليم حتى المناطق التي تحت الحكم الاوكراني من الاقاليم الأربعة مقابل وقف اطلاق النار بدون اي ضمانات! بمعنى أخر استسلام أوكراني على الأقل في هذه المرحلة من الحرب ريثما يعيد بوتن رص صفوفه ليتابع ما بدأه في عام 2014 و 2022! من الطبيعي اذا لأوكرانيا الرفض لسببين, الأول ان وقف اطلاق النار امر مختلف تماما عن تسليم الاراضي الأوكرانية لروسيا! من الممكن التفاوض على وقف اطلاق النار لكن التنازل عن الأرضي الأوكرانية امر مرفوض بالنسبة للشعب وللحكومة الأوكرانية وحتى لو فرضنا جدلا ان الارهاق الذي اصاب الطرفين الروسي والاوكراني قد يكون سبب للضغط على اوكرانيا لتسليم أراضيها السؤال هو ما الضمانات انه بعد ان تعيد روسيا رص صفوفها تعود لكييف العاصمة مرة أخرى؟
من الواضح ان ترامب فشل تماما في ان يضغط على بوتن بايجاد اي ضمانات! حتى موضوع الجنود الأوربيين الذي سبق ترامب وصرح ان بوتن وافق عليه لا يبدو ان بوتن قبل به! مما يعني ان العرض الروسي على الطاولة هو ان وقف اطلاق النار من الطرف الروسي شرطه استسلام أوكرانيا بشكل كامل وبدون اي ضمانات لها ولا حتى تعويضات عن ما فعلته روسيا في أوكرانيا!
ان هذه الاتفاقية الموجودة على الطاولة هي اسوء حتى من اتفاقية اسطنبول التي عرضتها روسيا لانها لا تكتفي بخسارة أوكرانيا لاراضيها وقوتها بل تضيف عليها ايضا ان المناطق الأوكرانية الحرة ستصبح رهينة تماما عند أمريكا حسب الاتفاق الذي يريد ترامب لزيلنسكي ان يوقعه عن خيرات الاراضي والموانئ الأوكرانية!
بالتالي السؤال المطروح هو ان كان ترامب قادم باتفاق الاستسلام من روسيا فما الجديد الذي جلبه ترامب للطاولة؟ ولماذا على الأوكران مكافئته بمنحه المليارات الأوكرانية من الثروات الباطنية؟

حادثة البيت الأبيض

مما سبق وبشكل واضح لقد فشل ترامب ان يضغط على الروس بأن يقدموا اي تنازل لكنه “أي ترامب” يحتاج روسيا كحليف أولا وثانيا امامه عرض من بوتن للاستفادة من الثروات الباطنية في روسيا بما فيها على ما يبدو الدونباس وغيرها وهذه نقطة مفصلية! اذ ان ترامب الان اصبح مستفيدا ليس فقط من وقف اطلاق النار! بل من استسلام أوكرانيا لانه طالما ان الدونباس محتلة بشكل غير قانوني لا يمكن لا لترامب ولا غيره الاستثمار بها حسب القانون الدولي وهو يريد اسقاط كافة العقوبات عن روسيا ليتعامل معها اقتصاديا بما فيها حتى العقوبات على الاقاليم المحتلة!
لذلك دخل ترامب وفانس الى البيت الأبيض ليس لأقناع زيلنسكي بالتوقيع بل لتهديده وابتزازه وهو ما بات واضحا من خلال اللغة التي تم استخدامها, ترامب اراد اظهار نفسه كمفاوض بارع وبما أنه فشل تماما بتحريك الطرف الأول فقد قرر ان يغير استراتيجيته الى ابتزاز الطرف الثاني بشكل كامل حتى يستسلم ويرضخ ويوقع اتفاقية استسلام!, النقطة الاساسية هي ابتزاز اوكرانيا بالدعم الأمريكي وان أوكرانيا يجب ان تكون شاكرة لأمريكا لكن النقطة التي تجاهلها تماما ترامب أن الدعم الأمريكي المقدم لأوكرانيا لم يكن يوماً مجانيا بل هو جزء من اتفاقية بودابست عام 1994 والتي وقعتها امريكا وروسيا وبريطانيا وأوكرانيا بضمان امن أوكرانيا ان حصل اي هجوم عليها مقابل ان تسلم أوكرانيا سلاحها النووي وصواريخها بعيدة المدى! من نافلة القول ان أوكرانيا بالاساس لو لم تسلم هذا السلاح لما احتاجت الدعم الامريكي اصلا ولا كانت روسيا ستغزو القرم والدونباس عام 2014 ولا كييف عام 2022!
والغريب والمتناقض ان ترامب كان يحاول تجنب الكلام عن اي ضمانات لأوكرانيا مع ان اوكرانيا انكوت بنار عدم ذكر الضمانات باتفاقية بودابست نفسها التي تجاهلها بالاساس بوتن والان يتجاهلها ترامب في رسالة متناقضة للأوكران تعدهم باتفاقية يمكنهم الوثوق فيها من طرفين بالاساس لم يلتزموا بالاتفاقية القديمة ويتجاهلونها وكأنها لم تكن!
لذلك رفض زيلنسكي ان يتحدث عن اي اتفاق بدون ضمانات كي لا تتكرر نفس الكارثة عام 1994 ولذلك تم ابتزازه ويستمر ابتزازه من ترامب الذي يرى ان السيناريو الوحيد للسلام هو استسلام أوكرانيا وسوف يضغط على اوكرانيا "التي كانت السبب في محاكمته السابقة وحصوله على لقب العزل في دورة رئاسته الأولى" لكي تستسلم كي يظهر هو بمظهر البطل كما وعد جمهوره وليحصل على نتائج الاستثمار مع بوتن.

ما النتائج المحتملة لما حصل؟

حالياً تحاول أوكرانيا اعادة فتح خط مع امريكا لكن دون الرضوخ للابتزاز السياسي وهي عملية في غاية التعقيد بنفس الوقت التي تعمل الدبلوماسية الاوربية على تقريب وجهات النظر من ناحية ومحاولة تأمين أوكرانيا التي تحارب أكبر دولة بالعالم والتي تحتاج كل الدعم لذلك!إن امريكا اليوم تملك اقوى الاوراق وهي اقوى من الطرفين! لكن ما لا يدركه ترامب أن استمرار هذه السياسة سيضعف موقف الولايات المتحدة لان نقطة قوة أمريكا هي بالدعم لأوكرانيا! ايقاف الدعم يعني انهيار مؤقت للقوات الأوكرانية لكن في حال سداد جزء كبير من الطرف الأوربي فأن جميع اطراف الحرب سيعتادون على غياب الدور الأمريكي مما يهمش أمريكا بشكل أو بأخر في هذه الحرب وربما في صراعات اخرى!
الأهم من ذلك ان ما حصل كان كابوس لدول البلطيق وبولندا وباقي دول أوربا! أي منهم كان من الممكن ولا يزال يمكن أن يكون مكان أوكرانيا وهم يرون بأعينهم سنين من الاتفاقيات العسكرية مع امريكا التي جرت أوربا الى الشرق الأوسط ومناطق اخرى لدعم امريكا خوفا من لحظة ان يتهدد اوربا خطر حقيقي ظنا من الأوربيين أن امريكا شريك يعتمد عليه! رسالة ترامب واضحة! امريكا ليست شريك يعتمد عليه بل ممكن حتى أن تتحول الى عدو!
ماذا يترتب على هذا الأمر لأوربا؟ على أوربا ان تبحث عن حلول بديلة حقيقية لحماية أمنها! زيادة الدعم العسكري وزيادة العناصر المقاتلة! وبما أن اغلب دول اوربا لا تملك خزان عسكري من القوات تبدو اهمية كل من بولندا وأوكرانيا بما أنهما من أكبر الخزانات البشرية للقوات العسكرية في أوربا خاصة وبعد الخبرة العسكرية لأوكرانيا في الحرب الأخيرة! بالتالي على أوربا أن تتمسك اكثر بأمن أوكرانيا والتسريع بضمها
وحمايتها لتكون حائط الصد الأول ضد الهجمات الروسية المحتملة في اي لحظة
وهذا بالضبط ما تراه الحكومات الحالية لبريطانيا وفرنسا وألمانيا
هل هذا يعني أن دور الولايات المتحدة قد يتهمش؟ ليس بالضرورة! اعتقد اننا امام عدة سيناريوهات, احدهما هو ان يقوم الكونغرس الامريكي بالضغط بشكل او باخر على ترامب مع الدولة العميقة لارسال ولو بعض الدعم للبقاء كلاعب في هذا الميدان! لكن الاحتمال الأخر ان محور ترامب – ماسك الذي يعمل الان على تغيير بنية النظام الامريكي بشكل كامل قد يتجاهل كل هذه التحذيرات ويصطف كما انذر بشكل كامل مع روسيا بل وربما يهدد أوكرانيا بالعقوبات.
المآلات بالنسبة لأوكرانيا ليست جيدة على الاطلاق لكن بارقة الأمل هي ان الشعب الأوكراني لطالما اثبت انه مبدع مع الحلول البديلة وكما استطاعت اوكرانيا طرد معظم الاسطول الروسي من البحر الأسود بدون ان تملك باخرة عسكرية واحدة مقاتلة عن طريق حرب الدرونات المسيرة فان المهندسين الأوكران قد يجدون حلول بديلة ل "ستار لينك" وغيرها من التقنيات خاصة في ظل تعاون اوربي, لكن تكون هذه الرحلة سهلة خاصة مع تعب كبير على الجبهة لكن يبدو ان ترامب وضع الأوكران امام خيارين لا ثالث لهما "على الأقل الأن" اما الاستسلام الكامل او الصمود! وحتى ظهور قوة في امريكا قادرة على اقناع ترامب ان يظهر بعض القوة والضغط على بوتن وفي حال لم يتغير العرض الأمريكي اعتقد أن الأوكران سيحاولوا الصمود ما استطاعوا اليه سبيلا.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022