بينما تشهد الساحة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا عصياناً على الطرفين لتحقيق انجازات حقيقية رغم القتال الشرس, فأن الساحة الدبلوماسية اليوم تشهد حراكاً غير مسبوق مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحكم وفكرته عن أن أيقاف الحرب أمر أساسي يجب أن يحصل بأسرع سرعة.
تتزامن الدعوات الدبلوماسية الى اعادة طرح موضوع الشرق الاوكراني من كثير من وسائل الاعلام وعن المشكلة التي لطالما طرحها الاعلام الروسي! فالدولة الروسية تدعي أن احد اهم اسباب الحرب هي أن اوكرانيا كشرق هو شعب يملك هوى روسي سواء باللغة او الدين او حتى روابط الدم والنسب! وأن هذا المكون يتعرض لاضهاد من الدولة الاوكرانية التي تمثل التيار الغربي او القومي بحسب الاعلام الروسي, لذلك فأن هناك من يطرح اسئلة عن مصير هذا المكون من الشعب الاوكراني وكيف ستؤثر المفاوضات عليهم؟
لكن قبل البدأ بتحليل هذا الامر يجب تفكيك الرواية الروسية التي هي مبنية على مزج الحقائق بادعاءات يجب تفنيدها! فالشرق الاوكراني بالفعل مرتبط باللغة الروسية وبالديانة البرافاسلافية ويملك علاقات دم ومصاهرة مع الطرف الروسي لكن هذا لا يعني بالضرورة تعاطفه مع روسيا.
خريطة أوكرانيا السياسية
في البدأ يجب التنويه ان التيارات السياسية في اوكرانيا منذ الاستقلال تنقسم الى تيارين او 3 التيار الشرقي الاقرب عادة الى روسيا والتيار الغربي الاقرب لفكرة وحدة اوكرانيا واستقلالها وتيار الوسط وهو تيار يميل تارة نحو الشرق وتارة نحو الغرب لذلك يصعب تصنيفه كتيار واحد فهو يملك كتلة وتوجه متغير حسب حال البلد, وعلى عكس الدعاية الروسية عن الاضطهاد السياسي الذي يتعرض له سكان شرق أوكرانيا فأنه وباستثناء الرئيس الأوكراني الأول ليونيد كرافتشوك فكل رؤساء اوكرانيا التاليين كانوا من المدن المحسوبة على التيار الشرقي! بعضهم كان يملك توجه غربي ك يوشنكو الذي ولد في مدينة سومي على الحدود الروسية لكنه كان يملك توجه غربي واضح وباراشينكو الرئيس السابق الذي كان يترواح بين تيار الوسط والتيار الغربي, وهو من مدينة اوديسا, اما الرئيس الحالي زيلينسكي فهو من مدينة كريفا ريه وهو بالاصل يمثل ايضا التيار الشرقي لكنه يتراوح باتجاه الوسط الاوكراني وشعبيته تتدنى كل ما اتجهنا باتجاه الغرب, كوتشما "الرئيس الوحيد الذي حكم دورتين" كان من دنيبر ويانكوفيتش كان من دونتسك وكلاهما محسوب على الشرق بشكل واضح مع بعض الدعم احيانا من الوسط الاوكراني, طبعا للتوضيح فان تحديد الاتجاه هو يكون بقوة حزب وتيار الرئيس حسب الخريطة الاوكرانية وتوزع الناخبين وهو بشكل او بأخر يعكس الدعم الشعبي لطرف بحسب مناطق التوزع.
مما سبق من الواضح امرين! الاول: لا يوجد اي تجاهل سياسي للشرق الاوكراني بل على العكس من خلال الوقائع إن تياري الوسط والشرق هم الاكثر تمثيلا وسيطرة على المشهد السياسي الاوكراني وهذا ما شاهدناه بوضوح في اخر انتخابات اوكرانية عندما حصل مرشح الشرق والوسط زيلنيسكي على نسبة 73% من الاصوات مقابل مرشح الوسط القريب للغرب باراشينكو. أما النقطة الثانية فهي ان سكان الشرق الاوكراني ليس بالضرورة ان يكون هواهم السياسي قريب لروسيا كحالة يوشنكو مثلا الذي يعتبر اكثر رؤساء اوكرانيا بتوجه غربي رغم انه من مدينة سومي! بل ما يؤكد ذلك ان المعارضة الاوكرانية المؤيدة لروسيا كان يتزعمها ميدفيتشوك القادم من زاكارباتي اوبلاست في اقصى الغرب الاوكراني
اذا سياسيا ليست الامور تماما بهذا الشكل الذي تصوره روسيا! فالواقع اعقد بكثير خاصة بوجود جاليات روسية حتى في اقاليم غربية والعكس بالعكس! لكن سياسيا وفي حال انتهت المفاوضات بضم الاقاليم التي سيطرت عليها روسيا فأنه على العكس! ستكون هذه ضربة سياسية لتيار الشرق الاوكراني بسبب خسارتهم لمحافظات كانت تشكل ثقل انتخابي من ناحية مع التاكيد على ان الحرب الروسية على أوكرانيا نفسها جعلت تيار الوسط يتحول بشكل كبير الى الغرب كنتيجة لما شاهده من فظائع
عامل اللغة والدين
تتحدث روسيا ايضا عن اضهاد ديني ضد البرافاسلاف والواقع غير دقيق فكل الديانات مسموحة في اوكرانيا ولا يتعرض احد للاضطهاد على اساس ديني! المشكلة كانت مع جزء من الكنيسة البرافالاسفية الذي يعتبر نفسه جزء من روسيا بل ويدعو ضمن القداس لممثل بوتن كيريل الرجل الاهم في السردية الدينية لحروب روسيا سواء ضد اوكرانيا او سوريا او غيرها من الحروب! ناهيك عن مواقف غريبة من الكنيسة حصلت بتخبئة عناصر مطلوبة للدولة بسبب جرائم الحرب في الدونباس كما حصل في كييف, لذلك وبناء على كثير من الشكاوي قامت الدولة بتفتيش هذه المؤسسات وقد وجدت بما لا يدعو للشك ادلة على تخابر مع الدولة الروسية اثناء الحرب.
اما بالنسبة للغة الروسية فهي ليست ممنوعة رغم الحرب! نعم ان البروباغاندا الروسية تتحدث عن منع اللغة الروسية في اوكرانيا وهذا هراء محض! لا يوجد اي قانون يمنع اللغة الروسية! ينص القانون الأوكراني على أن اللغة الاوكرانية هي اللغة الرسمية لكنه لا يمنع التعامل بأي لغة ثانية, هناك قانون اخر يلزم مزودي الخدمة في اوكرانيا اي خدمة كانت بالإجابة باللغة الاوكرانية ان طلب اي عميل منهم التعامل باللغة الأوكرانية. ان لم يحصل ذلك هم مخيرين بالرد بأي لغة يرغبون بها! بل انه حتى في اكثر المدن الأوكرانية ميلاً للاتجاه القومي مدينة لفيف انت تسمع في جنباتها لاجئين أوكران يتحدثون اللغة الروسية في الشارع, طبعا لا بد من الانصاف القول ان جزء كبير من المجتمع الأوكراني اصبح رافضا وبقوة اي تواجد للغة الروسية تماما ككره قسم كبير من الجزائريين للغة الفرنسية , وهو امر مفهوم مع الحروب الطاحنة لكن هذا على الصعيد الشعبي وليس على صعيد القانون.
كم من الأوكران يدعم الروس؟
السؤال الأهم هو هل فعلا قسم كبير من الاوكران يرحب بالروس ويريدهم؟ لفهم هذا السؤال بعيدا عن اي بروباغاندا من اي طرف هناك وقائع لا تحتمل التأويل! الاول هو ان خروج اوكرانيا اصلا من الاتحاد السوفيتي بتصويت عام 1991 شهد اقبال كبير على تأييد الاستقلال الأوكراني بغالبية ساحقة من كل الأقاليم شرقية كانت ام غربية! الاقليم الوحيد الذي كانت النتيجة فيه متقاربة كان القرم! باقي الاقاليم صوتت بغالبية كبيرة للاستقلال عن الاتحاد السوفيتي! اي خرجت بارادة شعبية!
هل هذا يلغي تماما كل ما له علاقة بالسردية الروسية عن تعاطف في شرق اوكرانيا؟ ليس تماما! حتى مع هذا الاستقلال بقي جزء لا بأس به من الشعب الاوكراني مرتبط بروسيا بشكل او بأخر ولطالما كانت روسيا تحاول استغلال هذا الامر اعلاميا لكن الملاحظة الاولى هي ان هذا القسم من شريحة عمرية متقدمة بالعمر اما شريحة الشباب فلا تملك هذا الارتباط لا باللغة الروسية ولا بروسيا نفسها وقد وجدنا انه مع محاولة روسيا تهييج المحافظات الشرقية بعد ثورة الميدان لم تستطع استقطاب الشباب في اعلب محافظات اوكرانيا بل كان مؤيديها من الاكبر سنا بشكل واضح وقد وقفت جماهير اندية كرة القدم على سبيل المثال او ما يسمى ب "الالتراس" بشكل واضح داعم لاستقلال اوكرانيا وضد اي تدخل روسي بما فيها الالتراس في اكثر المدن شرقية ك دونتسك وخاركيف
النقطة الثانية هي أن الغزو الروسي كان قائما اصلا على وهم أن الاوكران سيستقبلون بوتن بالورود خاصة في كييف وخاركيف وغيرها من محافظات الشرق والوسط وهو ما لم يحصل! بل أن كييف وخاركيف قبل أن يدافع عنها الجيش دافع عنها اهلها بالبنادق والمولوتوف! حتى المدن الشرقية التي سيطر عليها الروس شهدت تظاهرات كبيرة ضد التواجد الروسي وعمليات تخريبية من وحالات تسمم قام بها الاوكران لطرد المحتل الروسي! حتى القرم تشهد لحد اليوم عمليات تخريبية من السكان الاصليين الرافضين لضم القرم الى روسيا. لقد راهن الروس على انقسامات عرضية كبيرة في الجيش الاوكراني المتكون من مزيج من كل اطياف الاوكران وانشقاقات وانضمام للطرف الروسي وهو ما لم يحصل بل ان الانشقاقات في الطرف الروسي كانت أكبر بكثير من مثيلتها في الطرف الأوكراني! وهو امر يمكن التأكد منه من توازن الجبهة على مدار السنوات الثلاثة على الرغم من أن القوة الروسية اكبر عددا بكثير من الطرف الأوكراني, حالة التعادل على الارض تدل على ان الطرف الاول يخسر اكثر من الثاني على اعتبار ان امكانية التجنيد عند الطرف الروسي اكبر بكثير من الطرف الاوكراني, هذا الامر يدل على شبه وحدة كاملة في الطرف الاوكراني رافضة تماما للاحتلال الروسي! وقد دعم هذا الامر ما شهده سكان شرق اوكرانيا من فظائع واهوال حصلت في المدن التي دخلها الروس, مما جعل حتى من كان في الماضي يدعم روسيا يخاف اليوم من دخولها الى مدينته وحيه ويجعله يمسك السلاح ويحاربها, لا يعني هذا اختفاء من يدعم روسيا او يتعاطف معها تماما لكن الحرب الحالية جعلت من نسبتهم اقل بكثير وهي نسبة اليوم لا تبدو مؤثرة وكما سبق هي تمثل شريحة عمرية تتناقص يوما بعد يوم وبسرعة ولربما كان هذا احد أسباب الغزو الروسي الان قبل اختفاء هذه الشريحة بشكل كلي وظهور جيل من الشباب يؤمن
تماما باوكرانيا المستقلة
المحصلة
لقد نزح ملايين شرق اوكرانيا الى وسطها وغربها, يتعايش اليوم المجتمع الاوكراني مع جراحه وبينما حاولت روسيا استغلال موضوع اللغة والدين تماما كما كانت تفعل ولا تزال دول مثل بريطانيا وفرنسا للتدخل في افريقيا وتماما كما كنا نسمع الكلام عن "الاقليات" في سوريا وغيرها الا انه من الواضح ان دولة مثل روسيا سيئة السمعة مع شعبها لم تتدخل في اوكرانيا لحماية أحد فسجل حقوق الانسان في روسيا دامي وروسيا قد دمرت الشيشان وحرقت غروزني لاختلافها مع روسيا باللغة والدين.
أما بوتن نفسه فهو غير مهتم اصلا بالدين وفي نفس الوقت الذي يزور به الكنائس يجلب الغزلان ليستحم بدمائها كي يزيد من شبابه بنفس العادات الروسية الوثنية وفي نفس الوقت الذي يتحدث عن حماية الاسرة الكلاسيكية الروسية فأن بوتن نفسه وبحسب الكثير من المصادر يملك علاقة او اكثر خارج الزواج (هو اصلا مطلق منذ سنين طويلة) وفي الغالب يملك اطفال خارج نطاق الزواج, وهذا الامر ليس حكرا عليه بل يعتبر امر شبه عادي ضمن الطبقة الروسية الحاكمة
اذا ما نسمعه من دعوات عن حقوق الشرق الاوكراني ما هي الا حجة استعمارية من نفس الكتاب القديم التي كانت تنقل منه كل جيوش العالم الاستعمارية! وروسيا ان وقعت اليوم على اي اتفاق سلام فانه لن تمضي عشر سنوات ولربما حتى خمس سنوات حتى نرى جيشها مرة اخرى في بقعة اخرى من العالم يحارب بحجة جديدة.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022