ماذا لو قرر ترامب غزو غرينلاند؟ تأثير الحماقة في السياسة

نسخة للطباعة2025.01.15
عبد الرحمن عكل

بالتأكيد تملك أغلب الدول مؤسسات خارجية واستخباراتية وعسكرية قوية, كذلك فأن وجود دولة عميقة يكرس وجود استراتيجيات طويلة الأمد لحماية مسارات سياسية معينة تحمي الأمن و المصالح الاستراتيجية للدول, لذلك في الحالة العامة نجد أن علاقات الدول بين بعض اقرب للثابتة ولا نشاهد مغامرات سياسية كبرى. لكن أحياناً حتى في دول كبرى قد يؤدي التكبر وفارق القوة الزائدة الى الشعور بالقدرة على خوض مغامرات قد تعود بنتائج كارثية على البلد

وتزيد احتمالية ظهور هكذا مغامرات عند الشخصيات القمعية والاكثر تفرداً بالسلطة فبعض هؤلاء لا يهتم دائما بما يقوله وزراءه وموظفيه فيخرج من حيز الرصانة السياسية وفكرة ادارة المخاطر الى فكرة المغامرة خاصة أولاءك الحكام الذين يحلمون أن يكونوا جزء من التاريخ فينتهي بعضهم في المكان الخطأ من التاريخ بسبب غلطة غير محسوبة! حتى أكثر الحكام دهاءاً ليسوا منزهين عن الحماقة السياسية في حال تفردهم بالرأي فالمغامرات غير المحسوبة قد تعود بكوارث رهيبة.

هذه المقدمة كانت لتوضيح الإسقاطات على الواقع, ماذا لو قرر ترامب مثلا فعلا غزو غرينلاند؟ عسكريا ربما يحتاجه الأمر الى ساعة او ساعتين! نظريا يبدو هذا القرار كمغامرة بسيطة ناجحة! بضع ساعات تضع اقليماً جديداً على الخارطة الامريكية ويخلد اسم ترامب في التاريخ الى الأبد! لكن وقبل ان نتحدث عن تأثير هذا القرار على أمريكا فلنستعرض بضع مغامرات مشابهة في التاريخ الحديث وكيف انتهى او قد ينتهي المطاف بها, فأفضل طريقة لفهم الواقع هو قراءة التاريخ

الغزو العراقي للكويت

بعد الحرب الطويلة مع أيران ظن صدام حسين أن احتلال الكويت سيكون امراً في غاية السهولة وهو لم يكن مخطئاً فاحتلال الكويت نفسها ربما كلف جيش صدام بضع ساعات لكن ما حصل في هذه الساعات غير تاريخ العراق والكويت والسعودية وسوريا وفلسطين والمنطقة كلها الى الأبد, لقد كانت الأحلاف العربية قبل حرب الكويت حقيقية! كانت الدول العربية ترى في بعضها البعض عمقاً استراتيجيا وقد كان الكويتيون والسعوديون ينظرون للجيش العراقي على أنه حامي المنطقة من ايران, هذا التحالف كان يعطي الجميع القوة! فلسطين كانت تحصل على مساعدات جيدة من دول الخليج العربي والجيش العراقي كان يبدو كسند مهم للقضية الفلسطينية في حال تدخل عسكري سافر من اي طرف! اما ايران فقد كانت غير قادرة على اختراق المنطقة بوجود جيش عراقي قوي, بعد ان استيقظ العالم العربي على فاجعة الهجوم العراقي على الكويت تغير العالم العربي الى الابد! لم يعد اخوة الخليج اخوة بعد اليوم, الكويت والسعودية اصبحوا اعداء للادارة العراقية بل اصبح الجيش العراقي خطر استراتيجي على اخوانه في الدول المحيطة مما اجبر الدول المحيطة على تعاون عسكري قوي جدا مع الولايات المتحدة الامريكية لتصبح الهيمنة الامريكية على المنطقة مطلقة مما ضر طبعا بالعراق نفسه وسهل المهمة الامريكية في ما بعد باحتلال العراق, منظمة التحرير الفلسطينية كانت مطالبة باتخاذ موقف من الاحداث في الكويت وكونها كانت تجد في الجيش العراقي توازن مهم يحمي من غطرسة الاحتلال فقد اصطفت مع العراق مما انتهى بالضرورة الى قطيعة مع كثير من الدول العربية وعزل منظمة التحرير بعد خسارة العراق في الكويت وكان السبب المباشر في اتفاق سلام ضعيف جدا حيد دور منظمة التحرير الفلسطينية, بالمقابل ضعف العراق ادى بالضرورة الى قوة ايران وتغولها وتسهيل مهمتها في ما بعد بالسيطرة على العراق نفسه ولبنان وسوريا واجزاء كبيرة من اليمن!

كييف في ثلاثة أيام

الشعار الذي كان يردده الأعلام الروسي! اوكرانيا بلد كبير ومترامي الاطراف لكن الدب الروسي أكبر بلد في العالم! وبحسب الاعلام الروسي لن يجد اي مشكلة في احتلال أوكرانيا! اما العاصمة الأوكرانية فكان يجب أن تسقط في 3 أيام! خاصة وان الروس كانوا يظنون أن الشعب الأوكراني سيستقبلهم بالورود في العاصمة الاوكرانية, وبالفعل بدأ الغزو الروسي الذي كان كثيرون يتوقعون ان لا يحصل لان الفكرة غريبة جداً وقوبل الجنود الروس بالسلاح! حتى ابسط الناس في اوكرانيا تسلحوا لايقاف الغزو الروسي عن كييف لتنسحب روسيا في ما بعد من الشمال الأوكراني وتركز على مناطق الشرق الأوكراني, وبغض النظر عن الكلفة البشرية الهائلة لهذه الحرب من الطرفين وللخسائر الاقتصادية والعقوبات وهجرة العقول الروسية وامور اخرى لن نرى تأثيرها اليوم لكنها حتما ستؤثر لعقود قادمة في بنية المجتمع الروسي, فعلى الصعيد الاستراتيجي ادخلت هذه الحرب السويد وفنلندا الى حلف الناتو وجعلت من بحر البلطيق المهم جدا للروس بحيرة للناتو,بل أن هذه الحرب اعادت للناتو اهميته واغلب دول الناتو زادت من مصروفاتها على التسليح, كذلك فقد آذت هذه الحرب العلاقات الالمانية الروسية المتطورة جدا قبل الحرب سواء سياسيا او اقتصاديا واوقفت كل المشاريع المشتركة وانهت عقود من السيطرة الروسية على اوربا عن طريق الغاز وجعلت روسيا تحت رحمة الصين بعد أن كانت الصورة تقريبا العكس لاعتماد الصين قبل الحرب على الموارد الروسية قبل ان تتمكن كل من الصين والهند بحلب روسيا وبارخص الاثمان, بالمقابل وعلى صعيد الشرق الأوسط وافريقيا خسرت روسيا نجاحاتها في سوريا بشكل شبه كامل لان الغزو الروسي على اوكرانيا اضعف بشكل كبير نظام بشار الاسد الهش والقائم على الانعاش الروسي الايراني, كذلك فقد خسرت روسيا قوتها الضاربة في كل من سوريا وافريقيا قوات فاغنر بعد معارك باخموت ومحاولة الانقلاب الفاشلة, اما على صعيد المحيط الروسي فقد خسرت روسيا اغلب حلفائها المقربين جداً, أوكرانيا نفسها لطالما حكمتها انظمة مقربة جدا من روسيا بل أن زيلنيسكي نفسه لم يكن أبدا بعيداً عن التسوية مع روسيا وكان يظن ان حلاً سياسياً ممكناً قبل الحصار الروسي لأوكرانيا, الشعب الاوكراني قبل الحرب كان مرتبطاً بشكل كبير بالشعب الروسي مما اعطى روسيا قوة وهيمنة كبيرة على القرار الاوكراني لكن ما فعلته سنين الحرب والمدن الاوكرانية المدمرة يصعب جدا الظن بانه قد يتغير مع الوقت! ومع خسارة اوكرانيا التي كانت ربما اهم حليف لروسيا في المحيط الاقليمي خسرت ايضا ارمينيا الحليف التاريخي لروسيا, اضف الى ذلك الابتعاد شبه الكامل لكازاخستان التي كانت ضمن القبضة الروسية ليبقى الحليف الروسي الاهم في محيطها هي بيلاروسيا المحاصرة والتي في حال حصل فيها ما حصل في سوريا مثلا فأن روسيا ستجد نفسها اضعف من أي وقت مضى!

طريق القدس يمر من حلب

مع بداية الربيع العربي حصل زلزال سياسي في المنطقة دفع الحكومات والحركات السياسية الى اتخاذ قرارات لتحدد بوصلتها ان كانت مع او ضد, وبينما كانت حركة حزب الله في لبنان الحاكم الفعلي الا انها كانت تعتمد بشكل او باخر على دعم كبير من نظام الاسد, ولخوف الحركة من ان سقوط النظام قد يضعف الحزب انخرط الحزب بشكل كامل في الاحداث السورية ولم يكتفي بدعم الاسد بل احتل كحزب مناطق كاملة من سوريا فرغها من اهلها تحت شعارات مثل "طريق القدس يمر من حلب" وغيرها ليتحول من حركة تحرر شعبية في العالم العربي الى حركة احتلال مكروهة بل حتى عسكريا تمدد الحزب على اراض اكثر من قدرته جعلته مكشوفا تماما وخسائره البشرية في سوريا ساهمت ايضا في اضعافه ليسقط بشكل سريع جدا مخابراتيا ثم عسكريا امام الاحتلال قبل ان ينهي الثوار السوريون وجوده في سوريا للأبد وينتهي قرار التدخل الكارثي في سوريا بقتل اغلب قادة الصف الاول من الحزب وتدمير بنيته التحتية تماما واخراجه حتى من المعادلة السياسية اللبنانية بعد ان كان القوة المسيطرة والتي تحدد من سيحكم لبنان

الخلاصة

هذه الامثلة وغيرها من المغامرات التي كان يظهر في البداية انها لا تحمل خطر كبير على صاحبها تعطينا فكرة عن ما قد يحصل في حال تدخلت امريكا عسكريا في غرينلاند! فاحتلال الجزيرة قد يستغرق من دقائق الى ساعات نظرياً لكن ما بعد هذه العملية سيغير وجه الاحلاف العسكرية الامريكية الى الأبد, وقد يكون هذا القرار هو نعي مستقبلي لاكبر حلف عسكري على وجه الارض, اذ لا اتوقع ان يبقى الناتو متحداً حيال هجوم الدولة التي يفترض انها تحمي باقي دل الناتو على الناتو نفسه, مما سيجبر الاوربيين تغيير عقائدهم السياسية والعسكرية الى الأبد ويغير خريطة التحالفات في العالم, لذلك أنا استبعد تماما فكرة تدخل عسكري أمريكي في غرينلاند واعتقد انها مجرد ورقة ضغط في مفاوضات لكن على النحو الاخر لم يكن اغلب المحللين ليتوقع لا غزو العراق للكويت ولا غزو روسيا لاوكرانيا ولا تدخل حزب الله في سوريا وكل ذلك حصل!.
بالنهاية تقوم السياسة على قرارات محسوبة لكن أحيانا نزوة لحاكم مستفرد في الرأي قد تغير التاريخ الى الأبد!

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022