هل يتحوَّل "نسيم البحر الأسود" إلى عاصفة؟

نسخة للطباعة2021.11.17

محمد سيف الله - مدير عام المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان - دكتور في العلوم السياسية - متخصص في شؤون الأمن القومي الروسي والعلاقات الروسية الأطلسية.

تتراكم المعطيات التي تزيد التوتر في البحر الأسود بموازاة المناورات التي تضم 32 دولةً من الناتو وحلفائه، والتي تستشعر روسيا منه تهديداً خطراً.

يستمر التوتر المتصاعد منذ 7 سنوات في أوكرانيا ومحيطها بتشكيل بيئة استراتيجية خطرة على الاستقرار في المنطقة، وعلى علاقات القوى المؤثرة في الأزمة الأوكرانية التي لا تبدو لها نهاية حتى الآن، فبعد اندلاع المواجهات بين كييف والدونباس واتخاذ موسكو خطوتها الدراماتيكية بـ"استعادة" شبه جزيرة القرم، زاد التوتر بينها من جهة، وبين الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي من ناحية ثانية.

منذ ذلك الوقت، لم تخلُ سنةٌ من تحذيرات أو تهديدات روسية وأميركية متبادلة، وصلت في بعض الأحيان إلى الإنذار باقتراب مواجهة مباشرة بين القوات العسكرية الروسية وقطع بحرية وطائرات غربية حيناً، وبين الروس والأوكران بصورةٍ مباشرة أيضاً في أحيانٍ أخرى.

واليوم، تضيف مناورات "نسيم البحر" في البحر الأسود معطياتٍ جديدة تزيد من تعقيدات المسألة، وتعزز المخاطر المرتبطة بها، مع زيادة حدة التوترات المتأتية منها على العلاقات بين القوى الكبرى، كما على الأمن والسلم في منطقة البحر الأسود أولاً، ثم في مناطق أبعد منها ترتبط بها بروابط الأمن الاستراتيجي تالياً.

رقعة قابلة للانفجار

ولكلِّ طرف من أطراف الأزمة تصوره الخاص عن طبيعتها، وعن أسبابها، وعن مساراتها والمصالح المرتبطة بها؛ فمن ناحية كييف، تبدو المسألة خياراً خاصاً بالذهاب أبعد في العلاقة مع الغرب، من دون إيلاء الانقسامات الداخلية الخطرة أهميةً كبرى. 

وبناءً على هذه المقاربة، فإنّها من جهةٍ تقلّل من أهمية موقف سكّان شرق البلاد المتحدرين من أصول روسية، والمؤيد لموسكو، بينما تعتبر من جهة مقابلة موقف الأخيرة تدخلاً في الشأن الداخلي الأوكراني، وخصوصاً بعد "استعادة" روسيا شبه جزيرة القرم التي تُركت مع أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحتى اندلاع الأزمة، ثم استعادتها روسيا على أنها أراضٍ روسية تاريخياً، وأن ارتباطها بأوكرانيا كان متعلقاً بوجود الاتحاد السوفياتي نفسه، وبالتالي فإن مسألة الحدود داخل الاتحاد لم تكن ذات أهمية كبرى مقارنةً بأهميتها اليوم من دونه.

في المقلب الآخر، تعتبر روسيا أنّ كلّ ما يجري في أوكرانيا يستهدف أمنها القومي، وترى أن خيار كييف بالاتجاه غرباً يهدف إلى إتمام إطباق حلف شمال الأطلسي (الناتو) والقوى المؤلفة له على حدودها الغربية والجنوبية على شكل "كمّاشة" تخنقها استراتيجياً، على قاعدة أن أغلب نشاط الدولة الروسية ووجودها البشري والحركي كدولة مركّز في الجزء الغربي منها، أي في المناطق التي ستكون بين فكّي الكماشة، فيما لو أتم الناتو تطويق حدودها الغربية والجنوبية-الغربية. 

وبالتالي، تعتبر موسكو أن "الناتو" لا يزال يشكّل مصدر الخطر المركزي عليها في منطقة أوراسيا، كما لا يزال يمثّل التهديد الأكبر لها كقوة عالمية تسعى لاستعادة مكانتها كقطب عالمي. ولا تخلو مضامين تصريحات المسؤولين الروس وأدبيات الخارجية الروسية من التشديد الدائم على تحذير كييف وواشنطن تحديداً من الذهاب أبعد في استفزاز روسيا والإضرار بمصالحها. 

لكن التوتر الحالي في البحر الأسود لم يكن مناسبة فريدةً من نوعها في السنوات الأخيرة، وعلى وجه التحديد في الأشهر الأخيرة؛ ففي يونيو/حزيران الماضي، شهدت المنطقة تصعيداً خطراً وصل إلى حد إطلاق القوات الروسية قنابل وطلقات تحذيرية في طريق المدمرة البريطانية "أتش أم أس ديفيندر" التي توغلت، بحسب الروس، مسافة 3 كيلومترات تقريباً داخل المياه الروسية قرب كيب فيولنت على الساحل الجنوبي للقرم القريبة من ميناء سيفاستوبول؛ مقر الأسطول الروسي في البحر الأسود. 

وعلى الرغم من التهديد الذي مثلته تلك الواقعة للاستقرار في المنطقة، فإن بريطانيا أنكرت تفاصيلها لاحقاً، لكنها في المقابل أكدت موقفها من قضية القرم، باعتبارها أرضاً أوكرانية، وفق منظور الخارجية البريطانية. وترى روسيا أن هذه التصرفات التي تقوم بها الدول الغربية بصورةٍ متكررة في المنطقة تعبّر عملياً عن نيات لدى هذه الدول بتشجيع أوكرانيا على الغوص في وحول حربٍ مع جارتها التاريخية. 

هذا التوصيف أكدته تعبيرات المسؤولين الروس خلال السنوات القليلة الماضية، وهي تعبيرات تكاد تكون مكررة بصورةٍ متطابقة؛ ففي حادثة المدمرة البريطانية، قال الروس إن الحدث يعتبر "تصرفاً خطراً". وقبل ذلك، في 9 نيسان/أبريل من العام الحالي، قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا "إن كييف تعيش في وهم حل الصراع في أوكرانيا بالوسائل العسكرية"، بالتزامن مع تأكيد موسكو أن كييف تعتمد في هذا الوهم على الدعم الغربي.

وفي التوقيت نفسه، كان الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي يبدو سعيداً بالحديث عن مشروع بلاده القاضي بالانضمام إلى الناتو. اعتبر الروس هذا الميل الشديد وصفةً لتصعيد التوتر في البلاد وتهديداً لمستقبلها ككل، لكن لعبة الجودو السياسية-الأمنية على رقعة البحر الأسود تتضمن نقطةً لافتة تتعلق بتبادل الاتهامات بتحريك حشود عسكرية باتجاه الحدود بين الفينة والأخرى؛ ففي الربيع الماضي، اتهم الكرملين أوكرانيا بحشد قواتها حول مناطق الجنوب الشرقي للبلاد بصورةٍ غير مسبوقة، وذلك في سياق استنتاج موسكو من أحداث المنطقة أن الغرب وكييف يحضرون لعملٍ ما وشيك ضدها، وهو استنتاجٌ يعتمد على  مجموعة من المعطيات، منها استمرار النشاط الغربي شبه اليومي خلال الأشهر الأخيرة في البحر الأسود، وإيصال معدّات عسكرية غربية إلى أوكرانيا، وخصوصاً خلال العام الحالي.

تعويض أميركي للحلفاء أم استحضارٌ للمواجهة؟

تركّز روسيا أيضاً في بناء منطقها حول المسألة على حقائق الجغرافيا السياسية الأساسية. هذا ما عبّر عنه نائب وزير الخارجية ألكسندر غروشكو في وقت حادثة "ديفيندر"، حين قال إن بلاده قلقة من النشاط العسكري في البحر الأسود "لدولٍ لا تطل عليه"، في إشارةٍ إلى الولايات المتحدة وبريطانيا بشكلٍ أساسي.

واليوم، تشارك 32 دولة من "الناتو" وخارجه في مناورات "نسيم البحر" في البحر الأسود، وعلى رأس المشاركين الولايات المتحدة، التي يشكل حضورها عاملاً مهماً في إضفاء معانٍ مختلفة على المناورات التي تجري بصورةٍ متكررة منذ العام 1997، لكنها اليوم مختلفة من حيث الظروف المحيطة، ومن حيث حجم التدريبات ونوعها وعدد المشاركين فيها، لتكون النسخة الأضخم في البحر الأسود، إذ تضم نحو 5 آلاف جندي، ونحو 18 فريقاً من فرق القوات الخاصة للدول المشاركة، وما يقارب 30 سفينة و40 طائرة.

ولا ترتبط هذه المناورات وغيرها من أنشطة الدول الغربية في البحر الأسود بهذه المساحة المائية المهمة فحسب، بل تمتد إلى قضية أكثر عمقاً باتجاه الشمال، إذ يشكل بحر آزوف الذي يفصله مضيق كيرتش عن البحر الأسود مساحة قلق أخرى، كانت قد شهدت في نهاية في العام 2018 توترات تضمنت احتجاز البحرية الروسية سفناً أوكرانية، ثم تدخلت واشنطن لتنذر بإرسال سفينة حربية إلى البحر الأسود المجاور، بينما ذهبت موسكو لتعلن عن تدريبات على منظومة "بانتسير" الصاروخية المضادة للطائرات في القرم. 

وفي حين لا يزال الكثير من المعطيات متشابهاً، إلا أن ظروفاً مستجدة فرضت نفسها على جهود تفسير الأحداث هناك، فعلاقة الولايات المتحدة وحلفائها تعرضت لتباينات جديدة، وطرأت عليها تغييرات مهمة، وخصوصاً العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. وإلى جانب التباينات التي تظهر بحدّة في فترات متفاوتة، دخلت إلى المشهد المعطيات المرتبطة بتشكيل واشنطن قبل أسابيع قليلة تحالفاً أنغلوساكسونياً صرفاً يجمعها مع بريطانيا وأستراليا تحت اسم "أوكوس".

لقد شكل هذا التحالف والظروف التي رافقت الإعلان عنه صدمةً للحلفاء الأوروبيين، ولا سيما فرنسا وألمانيا، باعتباره بديلاً عملياتياً من "الناتو" الذي أعطي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أدواراً جديدة لم تكن مرسومة له عند تأسيسه، والأهم أنها كانت أدواراً خارج الفضاء الأطلسي بصورةٍ تامة، أبرزها اندرج تحت لافتة "الحرب على الإرهاب".

وفي هذا السياق، يكتسب الاهتمام الأميركي بمناورات "نسيم البحر" معنى جديداً يرتبط بصورةٍ رئيسية بمحاولة استرضاء الحلفاء، عبر استعادة الحرارة إلى الأنشطة العسكرية والأمنية المشتركة من جهة، وتنشيط دينامية تخويفهم من الخطر الروسي من جهة أخرى، وهي الدينامية التي لطالما تم تفعيلها على سبيل المثال عقب كل محطة من محطات الاحتجاج الفرنسي الجريء حيناً، والخجول أحياناً، على الهيمنة الأميركية على قرار التحالف العابر للأطلسي أو بعد محاولات ألمانيا لتوقيع شراكات اقتصادية وطاقوية مع روسيا.

من ناحية أخرى، يبرز معنى آخر لحجم المناورات، يمكن تفسيره بمحاولة واشنطن تعزيز وضعية الحكومة الأوكرانية من ناحية، واستخدام الحشد الدولي المجتمع في المناورات لدعم موقفها من ناحية ثانية. ومن ناحية ثالثة، تفيد هذه المناورات في تعزيز تحالفات واشنطن في مناطق أخرى من العالم، وهو ما تعبر عنه مشاركة الدول العربية في الشرق الأوسط وغيرها من الدول غير المرتبطة جغرافياً بالأمن في البحر الأسود.

وبذلك، يستبعد أن تتجاوز دلالات المناورات الجديدة هذين المعنيين نحو افتراض دفع واشنطن باتجاه الحرب بين أوكرانيا وروسيا، على قاعدة أن اشتعالها سوف يتجاوز بتفاعلاته قدرة واشنطن حالياً على إدارة هذه المواجهة، خصوصاً مع تركيزها الاستراتيجي على مساحة أخرى في أقصى الشرق، ومع رسوخ تجربتي جورجيا والقرم في الأذهان، إضافة إلى تاريخ دول "الناتو" (الأوروبية تحديداً) غير المشجّع في الالتزام بحربٍ كبرى (مثلاً: الصعوبات التي واجهتها دول الناتو بتأمين العديد الكافي من الجهود خلال الحرب الأفغانية بعد 2001).

موقف روسيا

من ناحيتها، لا تقلل روسيا من خطر هذه الأنشطة بظروفها المتعددة على أمنها. وعلى الرغم من إجراء هذه المناورات في نسخاتها السابقة، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشدد اليوم على خطورة إجراء حلف الناتو هذه المناورات التي وصفها بأنها "غير مقررة سابقاً" في البحر الأسود.

لكن الموقف الرئاسي الروسي تضمن تهديداً مبطناً حين أشار إلى تلقيه اقتراحاً من وزارة الدفاع الروسية لإجراء مناورات في المنطقة نفسها، واعتباره "أن هذا الأسلوب غير مناسب، ولا داعي لتصعيد التوترات أكثر هناك". وقد درج الروس على تضمين مواقفهم حيال المناورات في الجوار القريب هذا النسق من الإشارات، إذ سبق أن أكدت الخارجية الروسية في مناسبةٍ سابقة عدم اقتناعها بجدّية إشعال الغرب حرباً مع الروس في المنطقة، بسبب "عدم قدرتهم على الفوز بها". 

على الرغم من ذلك، تطرق بوتين إلى أنواع القطع العسكرية المشاركة في المناورات، في إشارة منه إلى متابعة بلاده واهتمامها بالمستوى التقني للمناورات، وتحديد موقفها على أساس التناسب مع الخطر، حين قال: "بودّي التشديد على أنها (المناورات) غير مقررة في حوض البحر الأسود، وذلك ليس فقط بتشكيل مجموعة سفن قوية إلى حد كبير، بل وباستخدام الطيران، ومنه الطيران الاستراتيجي، ويمثّل ذلك تحدياً خطيراً لنا". وفي الوقت نفسه، أشار إلى اكتفاء وزارة الدفاع الروسية بمواكبة طائرات دول الناتو وسفنها في المنطقة، نافياً "مزاعم متعددة لوسائل إعلام غربية عن نية روسيا غزو أوكرانيا عسكرياً".

إنّ المعاني التي يتضمنها موقف بوتين تشير إلى ترجيح الاحتمالين السابقين حول الأهداف الإضافية الكامنة وراء المناورات بمعطياتها المذكورة، لكنّ موقفاً معاكساً في الاتجاه تضمنه بيان وزارة الدفاع الروسية الذي اعتبر أن المناورات العسكرية الأميركية في البحر الأسود تدل على أن الولايات المتحدة تدرس مسرح الحرب المزعوم في حال تصاعدت حدة التوتر في الدونباس في شرق أوكرانيا. 

وكاستجابةٍ سريعة، جاء إعلان وكالة "تاس" عن إجراء روسيا بنجاح تجربة إطلاق صاروخ باليستي جديد عابر للقارات من مركز "بليسيتسك" الفضائي في شمال غربي البلاد، مضيفة أن الإطلاق كان في منتصف حزيران/يونيو، أي بالتزامن مع التوترات التي شهدتها المنطقة، والمرتبطة بالمدمرة البريطانية. وتشير خلاصة المعطيات المتراكمة اليوم في البحر الأسود إلى أن روسيا لا ترجّح الحرب، لكنها تتحضر لها بصورةٍ دائمة.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

الميادين

التصنيفات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022