د. أمين القاسم - باحث في تاريخ المنطقة
دأب المسلمون في روسيا القيصرية كل عام على قصد حج بيت الله الحرام، هذا رغم مشقة السفر وتكلفته العالية، وفي أواخر القرن التاسع عشر، تكونت ثلاث طرق رئيسية لحج المسلمين من رعايا الدولة الروسية:
براً عن طريق أفغانستان والهند ثم بحرا إلى جدة، أو عن طريق إيران ثم العراق، أو عن طريق القوقاز وتركيا ثم سوريا، أو بالقطار من موسكو إلى وارسو وفيينا ثم إلى إسطنبول.
بحراً عن طريق موانئ البحر الأسود وخاصة أوديسا وباتومي وسيفاستوبول بشكل أساسي إلى اسطنبول ثم جدة مرورا ببيروت أو الإسكندرية.
وقد وصل عدد الحجاج من القيصرية الروسية في عام 1902م إلى حوالي 16 ألف حاج، وانخفض هذا العدد إلى خمسة آلاف في العام التالي مباشرة بسبب تشديد إجراءات السفر إلى الحج من خلال فرض جوازات سفر خاصة للحجيج ووضع شروط للفحوصات الطبية.
الحج في العشرينيات والثلاثينيات
بعد سيطرة البلاشفة على السلطة في روسيا بقيادة فلاديمير لينين، وعلى مدى السنوات العشر التالية عزز الماركسيون سلطتهم واحتلوا معظم أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة، ثم أسسوا اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية.
كان النظام الشيوعي يحارب الدين ويغرس الإلحاد، فقد أغلق المساجد والمؤسسات الدينية واضطهد ونفى رجال الدين، ودرّس الإلحاد في المدارس.
لقد رأى بعض المفكرين الشيوعيين أن مكة هو مكان لتجمع النخب المسلمة من جميع أنحاء العالم، لذا فالحج فرصة لتوسيع الولاء لهم في الأوساط الإسلامية، وكانوا يأملون في استخدامه لتمهيد الطريق لثورة اشتراكية في جميع أنحاء آسيا تحت القيادة السوفيتية.
لم تُسجل الإحصائيات الرسمية عدد الحجاج من شعوب الأراضي التي يحكمها الإتحاد السوفيتي بين عامي 1917-1924م ولكن لا شك أن العشرات أدوا هذه الشعيرة سرا من تركستان ووسط آسيا.
وفي عام 1924م أقيمت علاقات دبلوماسية بين مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها (المملكة العربية السعودية لاحقا) والإتحاد السوفيتي وافتتحت قنصلية سوفيتية في جدة، واختير كريم حكيموف (1892-1938) وهو تتري بلشفي قنصلا عاما للسوفيّت، والذي كان له دور هام في إقامة العلاقات التجارية والدبلوماسية بين الدولتين.
وبدأت السلطات السوفيتية تنظيم عملية نقل الحجاج الأجانب بواسطة القطارات والسفن السوفيتية، وأصدر قناصل السوفييت في بلاد فارس وأفغانستان والصين تأشيرات سفر لعدد من المسلمين الأجانب لأداء فريضة الحج والسماح لهم بالمرور عبر الأراضي السوفيتية. في حين حظر المسؤولون السوفييت على المسلمين السوفييت السفر للحج.
بعثة الحج عام 1926م كانت برئاسة مفتي الإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا رضاء الدين بن فخر الدين، وضمّت أيضا كل من مفتي طشقند والقرم. وفي العام التالي استمر حج العشرات عن طريق ميناء أوديسا إلى بداية الثلاثينيات.
لم يؤدِ أحد مناسك الحج في العام 1932م، وخلال زيارة الأمير فيصل بن عبد العزيز إلى موسكو -وكان وقتها وزيرا للخارجية السعودية- عام 1932م، طرح موضوع سفر الحجاج المسلمين في روسيا وأبدى استعداد المملكة لتأمين كافة احتياجاتهم واستعداد المملكة لاستقبال عدد من 10-15 ألف حاج سنويا، ولكن السلطات الشيوعية أهملت هذا الأمر ولم تأخذ به.
وقد انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد إعدام السوفييت لسفيرهم حكيموف في العام 1938م.
الحج بعد الحرب العالمية الثانية
شددت السلطات السوفيتية الرقابة على السفر عن طريق البر، وأصبحت جميع رحلات الحج لاحقا تتم عن طريق الجو، ففي عام 1944م تمكن 6 أشخاص فقط من الحج، وفي العام 1945م اتجهت بعثة من 22 شخص برئاسة مفتي الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وكازاخستان إيشان باباخانوف (1858- 1957م)، ومفتي الإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا عبد الرحمن رسولي (1889- 1950)، وفي العام 1946 تم التصريح بالحج لحوالي 30 شخص فقط، ولكن لأسباب صحية- انتشار وباء الكوليرا في مصر والشرق العربي- تم إلغاء رحلتهم، ولم يحج أحد من مسلمي الإتحاد السوفيتي في ذاك العام.
في العام 1947م تم التصريح لحج 40 شخص، ولكن بعد مشاورات بين وزارة الخارجية ووزارة الصحة تم إلغاء سفر الحجاج، كذلك لم يك هناك حج في العام 1948م بسبب ظروف صحية (انتشار الكوليرا في مصر" وظروف سياسية أخرى كما برر السوفييت.
وبين عامي 1946-1952م، أُلغيت جميع رحلات الحج لأسباب متعددة.
لقد كان عدد المسلمين في الإتحاد السوفيتي في خمسينيات القرن العشرين يناهز الأربعين مليونا، ورغم هذا فقد كان عدد الحجيج من روسيا عام 1953م هو 18 شخص. وفي العام 1954م كان العدد 21 شخص، وفي العام 1955م عشرون حاجا وكذلك الأمر في العام الذي تلاه، وكان يتم نقلهم بالطائرة على حساب جزئي من الحكومة السوفيتية، وباقي المال تدفعه الإدارات الدينية في البلاد من أموال التبرعات.
في عام 1963م عدد الحجاج 18 شخص، وفي العام 1964م توجه 19 حاجا، وفي العام 1965م عدد الحجاج كان 18 حاجا، وفي العام 1966م 17 شخصا فقط! وبين عامي 1945- 1989، حج ما بين 850- 900 حاج فقط.
وفي عام 1990م وصل إلى جدة 1525 حاجا على متن طائرات خاصة من شركة "ايروفلوت" السوفيتية، وفي العام 1992م حوالي 2500 حاج.
نلاحظ من خلال تتبع أعداد الحجاج وأوضاع الحج في ظل الحكم النظام الشيوعي للشعوب الإسلامي أن السلطات السوفيتية لم تنظر إلى الحج على أنه ظاهرة دينية فحسب بل مناسبة سياسية، لذا شددت جدا على سفر مسلميها لأداء مناسكها، ونستطيع القول بأنها منعتهم تماما من السفر لأداء هذه الشعيرة، إذ كانت تعادي الدين وشعائره، وتخشى من تأثرهم بالأفكار الإسلامية والصحوات الدينية المنتشرة في العالم الإسلامي.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
أوكرانيا برس
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022