في خضم العديد من المناقشات حول مستقبل أوكرانيا، البلد الذي لم يتمكن من تشكيل دولة واحدة خلال 30 عاما من الاستقلال، وتمزقه التناقضات العرقية واللغوية والاقتصادية، يتعين على أوروبا أن تسأل نفسها عما تعنيه أوكرانيا حقا بالنسبة لها.
سيكون الجواب هو نفسه: "منطقة عازلة"، لأن هذا يعكس بوضوح الدور الجيوسياسي لأوكرانيا في العلاقات مع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. فالحلف يحتاج إلى أوكرانيا كـ"منطقة عازلة" فقط.
خطوات التقارب
خلال أوائل التسعينيات، عندما لم تكن أوكرانيا ممزقة بعد بسبب "الحرب الأهلية"، كان حلف شمال الأطلسي يتطلع بجدية إلى هذه الجمهورية السوفييتية السابقة.
وفي عام 1994، وقع حلف شمال الأطلسي اتفاقا إطاري مع كييف، كجزء من مبادرة "الشراكة من أجل السلام".
وبعد خمس سنوات، أظهرت أوكرانيا ميلها المؤيد لعضوية الحلف الأطلسي، من خلال دعم عملية حلف شمال الأطلسي في البلقان. وفي 12 يونيو عام 1999 أغلقت كييف المجال الجوي أمام الطائرات الروسية المتجهة الى بريشتينا لعدة ساعات.
تسببت هذه الخطوة في رد فعل عنيف وسط العديد من الأوكرانيين، الذين يعتبرون أنفسهم جزءا من العالم السلافي الأرثوذكسي. ومع ذلك، يبدو كانت "الخطوة الصغيرة الأولى" نحو التكامل الأوروبي الأطلسي قد اتخذت (إغلاق المجال الجوي).
لا مكان لأوكرانيا في التحالف
بعد مرور سبعة وعشرين عاما، أصبحت أوكرانيا بلدا مجزئا، اقتصاده متداعي، وحكومته فاسدة، وسياسته الخارجية غامضة.
وكان أكبر اختراق في سياستها الخارجية الحصول على وضع "بدون تأشيرة"، ما يمنح المواطنين الأوكرانيين فرصة للبحث عن وظائف غير قانونية في البلدان الأوروبية المزدهرة، دون الحاجة إلى التقدم بطلب للحصول على تأشيرات دخول.
ومع ذلك، فإن كل المساعدات التي حصلت عليها أوكرانيا من الولايات المتحدة وأوروبا لم تساعدها على إعادة شبه جزيرة القرم، أو تحقيق النصر على الانفصاليين في إقليم دونباس شرق البلاد.
وعلاوة على ذلك، لدى بروكسل وواشنطن شكوك قوية حول القدرة الدفاعية لأوكرانيا. والحقيقة هي أن حلف شمال الأطلسي كان ذكيا بما يكفي في تعامله مع دول ما بعد الاتحاد السوفييتي، فلم يتجاوز جمهوريات البلطيق، التي أنفقت 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو قدر كبير من المال نظرا لميزانيتها الصغيرة (على سبيل المقارنة، تنفق بلجيكا 0.9٪، والمجر 1.27٪).
المساعدات حاضرة والقوة غائبة
ومع الإنفاق الدفاعي الرسمي لأوكرانيا، الذي لا يقل عن 5.93 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2021، ينبغي أن تكون البلاد قوة عسكرية قوية لا تخاف من أي جهة، وعضوا جديدا مرحبا به في حلف شمال الأطلسي.
ومع ذلك، أصبحت الإمدادات العسكرية منذ فترة طويلة مصدرا للمال السهل للنخب السياسية في البلاد، ولم تغير الفرق الرئاسية هذا الواقع إلا قليلا.
تستمر أوكرانيا في الحصول على كل المساعدات الأجنبية التي يمكن تخيلها، والتي يتم شطبها، وتختفي على الخط الأمامي لحرب مشتعلة، بينما تتم إعادة بيعها إلى بلدان ثالثة.
وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من ثروتها من المشاكل التي لم تحل، تستمر كييف في طرق باب حلف شمال الأطلسي، على أمل أن تساعد بروكسل في حلها، على ما يبدو.
دور أوكرانيا هو المنطقة العازلة
والواقع أن الدور الوحيد الذي يمكن لأوكرانيا أن تأمل فيه هو دور المنطقة العازلة. وفي النموذج الجيوسياسي الأوروبي، فإن الصراع مع أوكرانيا يجبر روسيا على وقف أطماعها العدوانية في أوروبا، فبعد أن "قضمت" روسيا جزءا من الأراضي الأوكرانية، سيستغرق الروس بعض الوقت لهضمها.
من المؤكد أن كييف ليست سعيدة بمثل هذا السيناريو، وفي يونيو الماضي، ناشد الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، حلف شمال الأطلسي قبول البلاد فورا في الحلف. وأكد أن عضوية الناتو ستكون السبيل الوحيد لإنهاء الصراع في دونباس.
بالمقابل، وعد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، بأن تصبح أوكرانيا يوما ما عضوا في الحلف، لكن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها.
وبطبيعة الحال، تجاهلت وسائل الإعلام الأوكرانية المؤيدة للرئاسة هذا الجزء الأخير من رسالة ستولتنبرغ، وبدأت الابتهاج بإمكانية "الدخول المبكر" في التحالف.
هذا على الرغم من معارضة روسيا الحازمة لتوسيع حلف شمال الأطلسي شرقا، وهو ما يعني أن انضمام أوكرانيا إلى الحلف سيفرض -تلقائيا- اتخاذ تدابير نشطة من قبل روسيا لضمان أمنها.
وإدراكا منه تماما بأن حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي لا يتوقان إلى استقبال أوكرانيا في أي وقت قريب، بدأ الرئيس زيلينسكي وإدارته في تصوير أوكرانيا باعتبارها "درع أوروبا".
حسنا، لبعض الوقت، قد تنجح هذه الحيلة الدعائية، المخصصة للاستهلاك الأجنبي والمحلي، بالنسبة لبعض بلدان الاتحاد الأوروبي، التي تظل متوترة بسبب دبابات بوتين القريبة منها، التي "تتسابق" على الطرق السريعة في أوروبا.
في هذا الإطار، سيكون لدى اليمينيين الأوكرانيين سبب جديد للفخر بدورهم كـ"مدافعين عن الأوروبيين" ضد "الجحافل الروسية".
ولكن، لماذا يتعين على بوتين أن يرغب في الاستيلاء على أوروبا؟ ولمن سيبيع الغاز بعد هذا السيناريو؟ وما هو نوع التهديد الذي ستشكله موسكو على بروكسل؟.
يكلف "الدرع الأوروبي" (المتمثل في أوكرانيا) الكثير، ويستمر الثمن في الصعود. ولهذا، قد يكون حلف شمال الأطلسي والاتحاد الروسي بحاجة حقا إلى منطقة عازلة بينهما (هي أوكرانيا)، بدلا عن بناء "الدرع"، الذي ندفع ثمنه غاليا من جيوبنا الخاصة.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
مجلة "إنترناشيونال أفيرز"
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022