ما إن أعلنت أوكرانيا استخدام طائرة "بيرقدار" المسيرة التركية أول مرة في الميدان، لضرب أهداف في إقليم دونباس الانفصالي شرق البلاد، حتى ضجت وسائل الإعلام وأروقة السياسة الروسية والعالمية بالحديث عن هذا المنعطف في أزمة مستمرة منذ 2014.
فالرئاسة الروسية، التي دعت سابقا تركيا إلى عدم تصدير طائرات مسيرة إلى أوكرانيا، رأت أن "المخاوف تحققت"، وأن استخدام "بيرقدار" سيؤثر سلبا على الوضع في الإقليم، الذي يسيطر عليها الموالون لها.
حتى أن قادة الانفصاليين في "جمهورية دونيتسك الشعبية"، المعلنة من جانب واحد، تحدثوا مباشرة عن محاولة الجيش الأوكراني التقدم، و"احتلال" قريتين.
كييف تهدد
لكن الأمر لا يتوقف على استخدام هذه الطائرة المسيّرة فقط؛ فقد شهدت الأيام الماضية سلسلة تصريحات أوكرانية، حملت عبارات تهديد غير معهودة في قاموس تعامل أوكرانيا مع "المعتدية روسيا".
أوليكسي أريستوفيتش قبل أيام، وهو مستشار رئيس مكتب الرئيس الأوكراني، والمتحدث باسم وفد كييف إلى مجموعة الاتصال الثلاثية حول التسوية في دونباس، قال إن أوكرانيا تعمل على برنامج صاروخي، ويمكن أن تستخدمه للضغط على الكرملين في إطار "الرد المتكافئ" على روسيا.
وأكد أن "الصواريخ الأوكرانية قد تحدد روسيا كوجهة لها، وهي قادرة على الوصول، حتى إلى موسكو".
ومن جهته، هدد وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، بـ"إجراءات"، إذا أوقفت روسيا اعتمادها على أراضي أوكرانيا لنقل الغاز، دون مزيد من التفصيل.
ويتزامن كل هذا مع توتر العلاقات بشكل غير مسبوق، بين روسيا، والناتو الداعم لأوكرانيا، خاصة في منطقة البحر الأسود.
موسكو قلقة
وعلى غير المعتاد أيضا، عبرت موسكو عن قلقها من "تهديدات كييف"، وانتقدت "صمت برلين وباريس" عنها؛ معتبرة أن هذه التهديدات ستؤثر على عملية التفاوض للتسوية في إطار "رباعية نورماندي"، التي تضم، إلى جانب روسيا وأوكرانيا، ألمانيا وفرنسا.
فرنسا سارعت للتعبير عن قلقها، واعتبرت أن استخدام "بيرقدار" يهدد "إجراءات تعزيز وقف إطلاق النار في المنطقة"؛ وبرلين، بدورها، انتقدت استخدام "بيرقدار" أيضا، ما أدى إلى توترات دبلوماسية مع كييف، التي أكدت حقها في "الدفاع عن النفس".
صرخات أوجاع
وتبرز هنا آراء تحليلية، ترى أن تهديدات كييف ماهي إلا "صرخات ألم، ناجمة عن أوجاع ومشاكل كثيرة تعيشها البلاد"، إن صح التعبير.
من أبرز هذه "الأوجاع" وأكثرها سخونة، بحسب مراقبين:
يهدد المشروع كييف بخسارة نحو 2 مليار دولار سنويا جراء رسوم عبور الغاز عبر شبكات النقل الأوكرانية، وتحويل هذه الشبكات إلى "خردة".
يضع هذا التجاهل زيلينسكي في حرج داخلي، لاسيما مع تراجع شعبيته بشكل حاد، وفي زاوية الشروط التي تضعها موسكو، وعلى رأسها عدم الخوض في قضايا أزمة شرق أوكرانيا واحتلال القرم، ما يعني -عمليا- أن لقاء القمة غير مهم، ولن يصل إلى نتيجة، بحسب مراقبين.
كما تتهم موسكو كييف بتعمد التصعيد، للفت الانتباه عن الأزمات السياسية والاقتصادية الداخلية، وتلك المتعلقة بالانتشار الواسع لفيروس كورونا.
يدعم هذه الآراء إيهور هوجفا، رئيس تحرير موقع "سترانا" (البلد)، الذي أغلقته السلطات قبل أسابيع بتهمة "الموالاة لروسيا"، فيقول: "الهدف المحتمل من الإجراءات الأوكرانية هو استفزاز العدو (روسيا)، وإثارة ضجة كبيرة حول هذا الأمر، ومحاولة تعطيل إطلاق خط "نورد ستريم 2" لنقل الغاز".
ويضيف: "ومع ذلك، أنا على يقين من أن فكرة سلطات كييف لن تتوج بالنجاح، لأن روسيا لن ترد بالمثل".
استعراض قوة
ويرى آخرون أن في استخدام "بيرقدار" استعراض قوة تمارسه أوكرانيا، ورسالة مفادها أنها قادرة على الضغط، أو حتى تكرار سيناريو تحرير إقليم كاراباخ الأذربيجاني في إقليم دونباس الأوكراني.
للجزيرة نت، يقول إيليا كوسا، الخبير في "المعهد الأوكراني للمستقبل": "وصلت الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية الروسية حدا كبيرا وخطيرا بالنسبة لأوكرانيا، ولهذا طبقت كييف ما لمحت إليه سابقا بعد تحرير كاراباخ، لتجبر الروس على إعادة حساباتهم، والتفكير بطريقة جديدة للتعامل معها".
وأوضح: "روسيا تتعامل مع أوكرانيا بمنطق القوة والفوقية، مدركة فارق الإمكانيات، واليوم، تسعى كييف -على ما يبدو- إلى تغيير قواعد اللعبة، وترجيح كفة ميزان القوة لصالحها نوعا ما، اعتمادا على واقع إقليمي وعالمي جديد".
واقع جديد
وفي سياق متصل، رأى كل من كينيث يالويتز، السفير الأمريكي السابق لدى جورجيا وبيلاروسيا، ووليام كورتني، السفير الأمريكي السابق لدى جورجيا وكازاخستان، أن لدى موسكو اليوم مساحة أقل للمناورة مع أوكرانيا وجورجيا المجاورة، على عكس ما قد توحي به قوتها.
وأوضحا، في مقال مشترك بمجلة "ناشيونال إنترست" الأمريكية، أن "روسيا قلقة من التطورات في آسيا الوسطى بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وتنامي النفوذ الصيني هناك، وفي جنوب القوقاز، حيث لدى بكين قاعدة عسكرية في طاجيكستان، وكذلك الحال في القطب الشمالي، التي تشكل "مناطق النفوذ الروسي التقليدية".
كما دللا على هذا الرأي بالقول إن "استمرار دعم الغرب لسيادة واستقلال وسلامة أراضي جميع الدول السوفيتية السابقة، أدى إلى بناء خزان من حسن النية بين الكثيرين في المنطقة، إن لم يكن جميعهم"، على حد قولهما.
ضوء أخضر
ويذهب البعض إلى ربط هذا "التصعيد الأوكراني" بضوء أخضر حصلت عليه كييف من حلفائها في دول الغرب، لاسيما في ظل توتر العلاقات، بين الأخيرة وروسيا.
ويذهب آخرون حتى إلى القول، إن تركيا، ببيع "بيرقدار" واستخدامها في أوكرانيا، تدفع كييف نحو التصعيد، بهدف مساومة بوتين على سوريا.
للجزيرة نت، يقول فاديم كاراسيف، رئيس معهد "الاستراتيجيات العالمية": "ليس سرا أن أوكرانيا تنسق مع شركائها في حلف الناتو، وربما تحصل منهم على دعم ومباركة ما تقوم به على الأرض".
لكنه اعتبر أنه "خطأ جسيم القول إنها تنطلق بإذن منهم، وتنفذ توجيهاتهم. جيش أوكرانيا ليس ميليشيا تدار من قبل جهة داخلية أو خارجية لتحقيق أجنداتها؛ ولأوكرانيا ككل حسابات قد لا تعجب بعض الشركاء، كألمانيا وفرنسا كما رأينا".
حقيقة التصعيد
وفي ظل هذه التوتر المتصاعد، تبرز فرضيتان لاستشراف المستقبل، أولها تقول إن التصعيد الراهن ما هو إلا زوبعة جدية في فنجان، إن صح التعبير، هدفه الوصول إلى حلول لقضايا إقليمية وعالمية أخرى؛ وثانيها تعتبر أن التوتر يتجه -عاجلا أو آجلا- نحو إعلان الحرب.
للجزيرة نت، يقول الكاتب والمحلل السياسي، أوليكساندر بالي: "إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن استخدام "بيرقدار" والتهديدات الأوكرانية الأخيرة جاءت دون مقدمات تذكر، نستطيع استنتاج أن الهدف الأوكراني منها (أو حتى الغربي) إجبار موسكو على تقديم تنازلات سياسية واقتصادية، وهذا واضح من خلال بعض التصريحات".
لكنه يضيف: "ومع ذلك، دعونا لا ننس أن المنطق الروسي يفضل أن يحل بالقوة أي تهديد، وإذا كان الغرب جادا في دعم أوكرانيا، وصادقا في نيته ضمها إلى عضوية الناتو، فأعتقد أن الوصول إلى الحرب سيكون مسألة وقت فقط".
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
الجزيرة
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022