هل ستندم ميركل على "نورد ستريم 2"؟

نسخة للطباعة2021.08.03
جورج عيسى - صحيفة "النهار" اللبنانية

من بين الملفات الدولية الملتهبة التي لن تغيب عن الأخبار لفترة طويلة تقاس بالسنوات، ملفّ "نورد ستريم 2".

فخطّ الأنابيب الشهير سينقل الغاز الروسي، بجانب النفوذ الروسي، إلى ألمانيا وأوروبا، بتحفيز ألماني ومباركة أميركية. 

دول البلطيق وبولونيا وأوكرانيا أبرز الخاسرين من هذا المشروع. لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ الدول الأوروبية الأخرى ستخرج فائزة على المدى البعيد، بما فيها ألمانيا.

أنهت المستشارة أنجيلا ميركل مسيرتها السياسية بأكبر مقدار ممكن من الضوضاء. هي نجحت في مناورة الرئيس الأميركي جو بايدن عبر إقناعه بإعفاء المشروع من العقوبات وهذا يعدّ إنجازاً شخصياً لها. وذهب البعض إلى توصيف قبول بايدن بمشروع ميركل بأنه "استسلام". 

في ما عدا ذلك، زعزعت برلين ركائز الاتحاد الأوروبي الذي عملت جاهدة على الدفاع عنه في غمرة توسّع الشعبوية الأوروبية وتداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد (بريكست).

هل من ضمانات كافية؟

يسمح المشروع بنقل 55 مليار متر مكعّب من الغاز سنوياً إلى أوروبا من دون المرور بأوكرانيا. تستفيد الأخيرة من الغاز الروسي كدولة ترانزيت بمقدار ملياري دولار سنوياً إذ يمرّ ثلث صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا من خلال أوكرانيا. 

إذاً لكييف الكثير لتخسره من هذا المشروع، خصوصاً بالنسبة إلى القدرة على الإنفاق العسكريّ لتمويل الحرب الدائرة في منطقة دونباس. تقول برلين إنّ "نورد ستريم 2" ليس بديلاً عن خط الغاز الذي يمرّ في أوكرانيا.

وتضيف أنّها ستحثّ روسيا على تمديد العقد مع أوكرانيا والذي ينتهي في 2024. كذلك، ستقدّم ألمانيا العون لأوكرانيا على الانتقال تدريجياً إلى الطاقة البديلة مع صندوق استثماري بقيمة مليار دولار، وهو ما يساعدها في تفادي الاعتماد على الطاقة الروسية. 

كذلك، ستستثمر ألمانيا بحدود 200 مليون دولار من أجل تحديث شبكة الكهرباء الأوكرانية. 

في الوقت نفسه، ستكون ألمانيا والولايات المتحدة على استعداد لفرض عقوبات إضافية في حال تعرّضت كييف لمضايقات من موسكو، وستعملان أيضاً للحفاظ على "صيغة نورماندي" من أجل إحلال السلام في أوكرانيا.

لكنّ الأخيرة لا تزال رافضة لـ"نورد ستريم 2"K لأنّها ترى أنّ معظم ما تقدّمه ألمانيا مجرّد وعود من دون ضمانات حقيقية. 

ورفضت برلين حتى مجرّد مناقشة فكرة وقف المشروع لو انتهكت روسيا تعهّداتها تجاه أمن أوروبا.

مصلحة ألمانيا

يمكن فهم إصرار ألمانيا على مشروع استجرار الغاز من خلال محاولة إيجاد دور جديد في العلاقات الدولية بعيداً من الولايات المتحدة. 

هذه المحاولات ليست جديدة تماماً. فهي بدأت منذ نحو نصف قرن مع استدارة ألمانيا الغربية باتجاه الشرق لاستجرار الغاز السيبيري. 

في هذا السياق، ثمّة تقارير تشير إلى أنّ حاجة ألمانيا اليوم للطاقة الروسية باتت أقل بكثير مما كانت عليه منذ خمسة عقود.

تظنّ برلين أنّها بهذه السياسة تدفع روسيا إلى التصرّف "بمسؤولية أكبر" طالما أنّها ستكون بحاجة للمال الذي يؤمّنه غازها لأوروبا. 

في حال صحّت هذه الفرضية، ستكون أوكرانيا الخاسر الأكبر. إذا كانت أوروبا تتمتّع بالموارد المالية لإنعاش الخزانة الروسية، فأوكرانيا لا تملك هذه الإمكانات، ولن تملكها في أيّ وقت قريب. لهذا السبب، هي لا تأخذ الضمانات الألمانية على محمل الجد.

لبرلين مصلحة مباشرة في هذا المشروع أيضاً. فهي ستصبح مركز التوزيع الأساسي للغاز الروسي عبر أوروبا في وقت تغلق دول أوروبا الوسطى محطات الطاقة العاملة على الفحم بسبب ضغط بروكسل لإطلاق مسار "الطاقة الخضراء". 

سيزيد ذلك من اعتماد تلك الدول على الغاز الألماني، وتالياً الروسي. بالمقابل، سيسمح هذا المشهد لبرلين بالبقاء في عالم أعمال الوقود الأحفوري وفي الوقت نفسه مناصرة فصل أوروبا عن الطاقة العاملة على الفحم.

وارتفعت كلفة الطاقة الكهربائية في ألمانيا بسبب قرار برلين إغلاق محطاتها النووية بعد كارثة فوكوشيما النووية في اليابان سنة 2011، كما بسبب ارتفاع أسعار الفحم. 

لهذا السبب، أصبح سعر الطاقة الكهربائية الأعلى منذ عقد من الزمن بالنسبة إلى الصناعة الألمانية. هذا يفسّر بحسب البعض الإصرار الألماني على شراء الغاز من روسيا.

أين المخاطر؟

في مقابل هذه المكاسب ثمة أكلاف أخرى قد تتكبدها ألمانيا. وصف مراقبون "نورد ستريم 2" البالغة كلفته 11 مليار دولار بأنّه "عقب أخيل" (نقطة ضعف مميتة)، بالنسبة لأوروبا كلها، وبالنسبة لألمانيا أيضا. 

سيمكّن المشروع روسيا من مدّ روسيا تأثيرها إلى الداخل الألماني بطريقة تؤثّر على صناعة القرار داخلها وداخل الاتحاد الأوروبي. 

كان ذلك جلياً حين تولى المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر رئاسة لجنة المساهمين في شركة "نورد ستريم 2 آي جي" المشغّلة للمشروع. وكان شرودر هو من اتّفق مع بوتين في 2005 من أجل بناء مشروع "نورد ستريم 1" في بحر البلطيق.

ويتولى الألماني ماتياس وورنيغ رئاسة مجلس إدارة الشركة، هو الذي كان عنصراً في الشرطة النظامية في ألمانيا الشرقية (شتازي) ويوصف بأنّه أقدم صديق لبوتين في ألمانيا. 

كذلك، خسرت ألمانيا تأثيراً كبيراً على روسيا في قضايا خارجية لكن أيضاً داخلية مثل منع موسكو عدداً من منظمات المجتمع المدني الألماني من الحوار مع نظيراتها الروسية. وتحذّر الأجهزة الاستخبارية الألمانية من أنّ الاستخبارات الروسية "زادت نشاطها بشكل بارز".

على ما يبدو قرّرت ميركل تجاهل جميع هذه التحذيرات وتمكّنت من إقناع بايدن بخيارها من أجل توفير طاقة رخيصة للصناعات الألمانية، وهو نبأ إيجابيّ بالنسبة إلى الصناعيين الألمان، خصوصاً قبل أسابيع قليلة من الانتخابات. 

وبعيداً من الحسابات الانتخابية، وضعت ميركل بلادها على سكة الاستقلالية الدولية عن القرار الأميركي. فأيّ تداعيات لمشروعها على تحصين ألمانيا بمواجهة التدخل الروسي في قراراتها؟، وهل يتبيّن في نهاية المطاف أنّ كلفة "نورد ستريم 2" تتخطى مكاسبه؟ توقعات كثيرة تميل إلى هذه الفرضية، وبشدّة.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

صحيفة "النهار" اللبنانية

التصنيفات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022