بين الأمل بتغليب الحكمة والدبلوماسية، ومخاوف خروج الوضع عن السيطرة، يتابع العالم تطورات الموقف على حدود إقليم دونباس في أوكرانيا؛ حيث يحشد الروس قوات استثنائية توحي بشيء ما يدبر في الخفاء، وسط التسخين الظاهر بين الروس الأمريكيين مؤخراً.
صحيح أن العالم ألف هذه الموجات المتفاوتة الشدة في لغة الخطاب المتبادل بين موسكو وواشنطن، إلا أن استخدام عبارة «قاتل» على لسان الرئيس الأمريكي في وصف نظيره الروسي، وما سبقها من تدخل روسي مزعوم في الانتخابات الأمريكية عام 2016 والهجمات الإلكترونية على المؤسسات والشركات الأمريكية، قد يوحي بأن الأمور تجاوزت خط الرجعة، وهو الشعور الذي باتت تغذية تحالفات معلنة بين موسكو وبكين وهما المنافسان الأشد مزاحمة على زعامة العالم من وجهة النظر الأمريكية.
وبما أن الكبار حريصون دائماً على الرزانة وتحكيم العقل والمنطق، تتولى دول تابعة تسخين المشهد في بؤر معينة على المسرح العالمي مصممة بعناية فائقة وقابلة للتسخين بسهولة. فالتوتر الطارئ بين أوكرانيا والروس ينذر بجولة جديدة من المناطحة فوق الأراضي الأوكرانية قد لا تسفر عن تكسير قرون الكبار؛ بل مجرد اختبار لقوة تلك القرون بغض النظر عن من يداس تحت الأقدام.
ولا داعي للبحث عن أسباب مباشرة لاستئناف الصراع، فالاتهامات جاهزة منها خرق اتفاقية «مينسك» ومنها استعادة أوكرانيا إقليم دونباس شرقي البلاد ذي الأغلبية الروسية، الذي انفصل عنها بدعم روسي عام 2014.
إلا أن عناصر التصعيد غير المعلنة قد لا تكون على صلة بأي من تلك الأسباب. فالروس يدركون بحكم التجارب التاريخية، أهمية منطقة البحر الأبيض المتوسط الاستراتيجية، وأوكرانيا هي بوابتهم إليها. وهذه مجرد نقطة في صفحة الخلافات الاستراتيجية مع الأمريكيين منذ أيام الاتحاد السوفييتي. أما جديد التوازنات الاستراتيجية فله أشكال متعددة أملتها تطورات عمرها ثلاثة عقود شهدت قفزات في تطوير قدرات موسكو العسكرية خاصة برنامج الأسلحة غير التقليدية، فضلاً عن مزاحمة واشنطن على غزو الفضاء بالتعاون مع الصين. وهناك التغلغل المعلن لمنظمة حلف شمال الأطلسي في عدد من دول أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفييتي السابق ومنها أوكرانيا، فيما تعتبره موسكو خطاً أحمر في خارطة أمنها الاستراتيجي، وتهديداً لأمنها القومي.
تهديد السلام العالمي
بالمقابل ترى واشنطن، أن الوقت قد حان للتصدي للصعود المستمر في قوة الصين ومنافستها على زعامة العالم، وفي حال استمر التحالف الصيني الروسي وتغيير معادلات التجارة العالمية عبر فتح روسيا خط الشمال، وسعي الصين لتوسيع نفوذها عبر مبادرة الحزام والطريق، ناهيك عمّا تم إبرامه من اتفاقات مع الاتحاد الأوروبي ودول الآسيان، فستخسر واشنطن الكثير من حلفائها الذين باشرت إدارة بايدن سعيها لتجديد التحالفات معهم بدءاً من اليابان وكوريا الجنوبية وانتهاءا بالاتحاد الأوروبي.
من هنا يمكن النظر إلى ما يجري في أوكرانيا على أنه تهديد وشيك للسلام العالمي، خاصة أن بوتين لن يسمح لواشنطن التي أقامت جسراً لتوريد الأسلحة إلى كييف نقلت عبره أكثر من 300 طن من العتاد العسكري خلال الأسابيع الماضية، بتغيير موازين القوة في المنطقة. ولذا يضع العالم يده على قلبه تحسباً من خطأ في الحسابات الأوكرانية يشعل فتيل حرب لا يمكن التكهن بنتائجها.
وتتهم كل من أوكرانيا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي روسيا بحشود عسكرية استفزازية قرب الحدود الأوكرانية، بينما تقول موسكو إن وجود قواتها هناك إجراء دفاعي وهو يتم داخل أراضيها.
فقد أعلن سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، أوليكسي دانيلوف، أن كييف لن تحاول استعادة منطقة دونباس شرقي أوكرانيا بالقوة. وقال دانيلوف، في مقابلة مع «رويترز» إن أوكرانيا تعتقد بأن حكومة بوتين تحشد قوات ومعدات عسكرية على الحدود معها في مسعى لاستنفار المواطنين الروس ضد عدو أجنبي.
وتشهد منطقة دونباس موجة تصعيد جديدة منذ فبراير/شباط تخللتها عمليات قصف متبادل بين القوات الأوكرانية من جهة ومقاتلي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك من جهة أخرى؛ حيث سقط ما يزيد على 14 ألف قتيل منذ بدء المواجهات بين الحكومة والانفصاليين عام 2014.
من جانبها، اعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية تعزيز روسيا وجودها العسكري في شبه جزيرة القرم والحدود مع أوكرانيا، محاولات لزعزعة الاستقرار والأمن في المنطقة.
وقال المتحدث باسم البنتاجون، جون كيربي، خلال مؤتمر صحفي، أن النوايا الحقيقية لروسيا غير واضحة وأن غموض النوايا الروسية لا يسهم على الإطلاق في إرساء الأمن والاستقرار في المنطقة.
بارقة أمل
ولكن وسط كل هذا التصعيد المتزايد لا يزال هناك أمل بتحقيق انفراج وسط الأنباء التي تتحدث عن مفاوضات بين الأمريكيين والروس. فقد نقلت وكالة تاس للأنباء عن سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي قوله إن مندوبين عن روسيا والولايات المتحدة بحثوا الوضع في جنوب شرقي أوكرانيا.
وأوضح ريابكوف، أن روسيا تجري اتصالات رفيعة المستوى مع الولايات المتحدة بشأن جوانب التوتر المتعلقة بأوكرانيا، مستنكراً المخاوف من الحشود العسكرية الروسية.
من جانب آخر عقدت الولايات المتحدة الأمريكية، اجتماعاً حول أوكرانيا بمشاركة المملكة المتحدة وكندا وليتوانيا وبولندا، تم خلاله بحث تنامي النشاط العسكري الروسي بالقرب من الحدود الأوكرانية. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان بعد اللقاء إن القادة أكدوا مجدداً دعمهم الثابت لسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها. واتهم البيان موسكو بزعزعة الاستقرار. وارتفعت حدة القلق في الثاني من إبريل/نيسان الحالي، عندما أجرى الرئيس الأمريكي، أول اتصال له مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أكد فيه دعم واشنطن الثابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، في مواجهة العدوان الروسي المستتر في دونباس وشبه جزيرة القرم. وبمجرد انتهاء مكالمة بايدن مع زيلينسكي، بدأت عمليات قصف أوكراني مكثف لإقليم دونباس.
وتكررت وعود الدعم الغربي لأوكرانيا على لسان وزير الدفاع الأمريكي تدعمها أنشطة مريبة للطائرات ذاتية القيادة البريطانية فوق المنطقة، بينما تنقل واشنطن أكثر من ألف وحدة عسكرية أمريكية لمنطقة البحر الأسود بحجة المشاركة في مناورات حلف الناتو منتصف مايو/أيار.
لكن كل هذه الجعجعة لا تعني طحناً قريباً ولا بعيداً. فالأمريكيون الذين يغوصون إلى أقدامهم في مواجهة تبعات الوباء وسط تضخم هائل في حجم الدين الحكومي، يدركون أن أي مغامرة خارج الحدود ستقضي على كل جهود وحتى وعود الإصلاح للإدارة الجديدة وتدخل البلاد في متاهات لا نهاية لها.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
موقع "الخليج"
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022