د. أمين القاسم - باحث في تاريخ المنطقة
"ثم وصلنا إلى كييف.. وهذه المدينة كانت كرسي مملكة الروسيا أوّلا ً، وعليها آثار القِدم، وهي مقدسة عندهم، بها كثير من جثث قسسهم المقدسين يزورونهم في الكنائس، ولهذا كثيرا ما يحجون إليها كما إلى بيت المقدس، وبها كنائس قديمة منها كنيسة على شكل أيا صوفية وقد طلعت على كنيسة أندريا وتفرجت على المدينة، وهي كثيرة الأشجار والحدائق يحيط بها نهر دينيبر، وهو من أنهار الروسيا الكبار، وحولها غابات كثيرة ترى سوداء من بعيد.. وهي في جبل محصنة، وبها مدافع أخذ بعضها من حروب الترك موضوعة حول القلعة إظهارا ً لقوتهم، وإشعارا ًبشدة شكيمتهم، وقد قطعت طرقها بالعربية ومتعت ناظري برؤية مبانيها وحدائقها البهية..".
الشيخ محمد بن عياد الطنطاوي (1810- 1861م) والذي يصفه الدارسون بأوصاف مثل: أول عربي رعى مدرسة الإستشراق الروسية، وعربي في بلاد الصقالبة، وأول معلم للعربية في البلاد الروسية، كاتب ومؤرخ ومعلم كبير، ألمع أساتذة اللغة العربية والعلوم الإسلامية والإستشراق.
ولد الشيخ في قرية من أعمال مركز طنطا، وحفظ القرآن الكريم صغيرا، ودرس العلم الشرعي على يد جملة من شيوخ الأزهر.
وقع عليه الإختيار لتدريس اللغة العربية في مدينة بطرسبورغ، وقد رخّص له الوالي محمد علي باشا بالسفر إلى روسيا. وصل روسيا عام 1840م وبقي فيها إلى وفاته تخللها زيارات عدة أشهر لمصر، وعمل في روسيا مدرسا للغة العربية والخط والشعر العربي في المدارس والكليات الشرقية، وقد حاز على عدد من الجوائز والأوسمة.
زار كييف لمدة يومين فقط من 25-27 أيار/ مايو من عام 1840م، ورغم هذه الزيارة القصيرة إلا أنه تمكن من تفقد المدينة، فزار اللافرا وكنائس القديسة صوفيا، والقديس أندراوس، وحضر استعراض الجيش يوم الأحد.
ويصف الطريق إلى كييف متمنيا أن يكون الطريق لمكة بهذا الجمال (( والبلاد التي جزنا عليها في المنازل كلها محفوفة بالأشجار، وبيوتها أكثرها بالخشب مبيضة من داخل ومن خارج.. وبالمروج كثير من الأنعام، ووددت أن لو كان للحجاج طريق بهذه الكيفية، وأعجبني رعي عجول البقر الصغار وحدها أو مع الغنم، وكان الهواء معتدلا ً، فكان السير لذيذا ً في تلك الغيطان والأشجار حتى قلت:
أبصـرت إذ جزت على الـروسيا *** أشـجـارهـا بالحسن مغبـوطـة
تدمـشـقـت من حسـن جنـاتهـا *** على دمشق الشـام والغـوطـة
وفي كييف أُعجب الشيخ بحسن جمال نساءها، فقال فيهن عدة أبيات من الشعر منها:
صادف فؤادي عند كيف رشيقة *** سـحرتـه بالنفثـات من شفتيهـا
قد سرت عنها وهو باق ٍعنـدها *** بث الهـوى الإيمـاءُ من عينيهـا
ويصف كييف بقوله: "ودائما ً تسمع في كييف دق الأجراس، وكذلك سائر البلاد، فإنها مشحونة بالكنائس خصوصا ً المدن..، وفي كييف مدارس منها مدرسة للبنات، وقد أعجبتني في ظاهرها، فكيف من باطنها،.. وفيها قلاع مبنية بالأحجار.. وكل السقوف مسنمة في تلك البلاد كبلاد الروم لا مسطحة كمصر، وحكمة ذلك سهولة انحدار الأمطار والثلوج".
وكتب في كتابه: "تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا" أو الذي يعرف ب "رحلة الشيخ الطنطاوي إلى البلاد الروسية 1840- 1850م" تحت عنوان: "أصل ولاية كييف" عن تأسيس المدينة ودخول أهلها المسيحية: أ"وكثير من أهل كييف تركوا عبادة الأصنام واتخذوا دين النصرانية سنة 867م، لكن ما زال أكثرهم وثنيا إلى زمان فلاديمير، الذي عمّد الجميع وأدخل النصرانية في الروسيا سنة 988م".
لقد تخرّج على يدي الشيخ محمد عياد الطنطاوي رحمه الله عديد من المستشرقين والسياسيين الروس والأوربيين الكبار، وقد ترك أيضا حوالي 30 مؤلفا، وعشرات الدراسات والمقالات وسيرة ذاتية حميدة بين العلماء الروس.
قناة "أوكرانيا برس" على "تيليغرام": https://t.me/Ukr_Press
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
أوكرانيا برس
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022