رحلة التهجير القسري لمسلمي القرم

مصدر الصورة: المصور أرفيدس شميتاس
نسخة للطباعة2020.05.15

د. أمين القاسم - باحث في تاريخ المنطقة

عاش شعب تتار القرم مئات السنين في وطنه شبه جزيرة القرم والمناطق المتاخمة لها الواقعة اليوم في روسيا وأوكرانيا، وساهم في تشكيل الحضارة الإسلامية والإنسانية، وتعرض خلال القرون الثلاثة الماضية لحملات منظمة لتهجيره والقضاء عليه، قد يكون أقساها هي مأساة إبعاده عن وطنه عام 1944م.

يروي كبار السن في القرم اليوم عشرات الشهادات والقصص القاسية عن هذه الجريمة الأليمة، جريمة إبعادهم في 14 أيار/مايو عام 1944م عن وطنهم شبه جزيرة القرم إلى أصقاع سيبيريا وآسيا الوسطى في رحلة طويلة وبظروف قاسية، نأخذ من هذه الروايات الموثقة جانب من هذه الرحلة المضنية.

تروي شمسية بيكيروفا (أم رضا) 82 عاما، وهي من قرية نوفاكلونفكا بمحافظة بيلاغورسك أن: "عددا من الجنود السوفييت دخلوا بيتنا بعنف ومنحونا ربع ساعة فقط لجمع ما يلزم من أغراضهم استعدادا للسفر".

وتكمل أم رضا وقد تسمرت نظراتها وتسارعت أنفاسها:  "كان عمري وقتها عشر سنوات، وقامت والدتي بجمع ما تستطيعه من أغراض، وأول ما وقع نظرها عليه هو المصحف الشريف المعلق على حائط غرفة الجلوس فقبلته ودسته في الحقيبة بين ملابسها، وبعد خروجنا من المنزل حذّر الجنود أمي من الرجوع إليه مرة أخرى لأي سبب كان".

ويكمل الحاج رفعت مسليموف (1932- 2014م) من قرية سونشنيادالينا بمحافظة سوداك قصته: "قادونا بالقوة إلى مركز المدينة، ثم زجوا بنا أطفالا ونساء ورجالا وشيوخا في محطة القطارات، وسط بكاء الأطفال وعويل النساء بانتظار وصول إحدى القطارات ثم دفعونا وبدون رحمة للصعود وبأعداد كبيرة في قاطرة قديمة".

يتابع رسيم آغا بيلالوف 81 عاما من بلدة سيميز بمحافظة يالطا: "عربات القطار  التي زج بنا فيها كانت معدة لشحن ونقل المواشي، فهي غير نظيفة، وفي حالة مزرية تفتقر لأبسط ظروف السفر، إذ لا مقاعد فيها ولا حمامات لقضاء الحاجة، تركونا بدون طعام أو شراب أو تدفئة الأمر الذي أدى لوفاة مئات المرضى وكبار السن والأطفال خلال الرحلة".

ويسرد الحاج عبد الرشيد غفاروف 81 عاما من قرية قوربيك بمحافظة ألوشتا والدموع تترقرق من عينيه: "كان القطار يتوقف مرات قليلة ويسمح للركاب بالخروج لوقت قصير لقضاء الحاجة، وفي إحدى المرات توقف القطار في وسط صحراء سيبيريا الباردة، ونزلنا ، فقامت والدتي بالإبتعاد قليلا عن مكان توقف القطار لتقضي حاجتها بعيدا عن عيون الجنود والرجال، ولكن القطار على غير عادته تحرك دون إنذار، وقبل الموعد المقرر، وهكذا فقدت أمي، وبقيت لوحدها في الصحراء القارصة لتنقطع أخبارها عنا تماما"، وعاش عبد الرشيد بقية حياته يتيما بعيدا عن حنان أمه.

خلال رحلتها الطويلة (حوالي 6000 كم) كانت القطارات تتوقف مرات محدودة ولفترات زمنية قصيرة جداً، ولا يسمح لركابها حتى بدفن موتاهم الذي وافهم الأجل، وتوفي ما نسبة 40% من المهجّرين بسبب البرد والجوع والأمراض.

وتتابع الحاجة منيفير أم حبيب الله من قرية كورتسي  (70 عاما) بمحافظة سيمفروبل: "عند وصولنا إلى وادي فرغانة في أوزبكستان، وكما حدثتني أمي، وجدونا صعوبة في التأقلم مع المناخ الحار والرطوبة العالية، كما وأن علاقة السكان بنا هناك كانت تتسم بالحذر والخوف بسبب الدعاية السوفيتية ضدنا، وهي أننا شعب خائن ومتوحش، وكميات الطعام التي خصصت لنا محدودة كانت محدودة، ولا يسمح لنا بالتنقل من أماكن إقامتنا دون إبداء سبب وجيه، وبسبب هذه الظروف الصعبة أصاب العديد منا المرض والجوع، ومات الآلاف من كبار السن والأطفال".

ويردف الحاج يوسف أبلاتيبوف (مواليد 1935م) من مدينة بغجه سراي: "دفعوا بنا للعمل الشاق بزراعة القطن في المزارع التعاونية رجالا ونساء، في ظروف صعبة، وقد تعرّض الكثير منا للأمراض المزمنة وللتعب والإعياء الشديدين، وكذلك أصابتنا لاحقا أنواع السرطانات بسبب المواد والمبيدات الكيميائية الزراعية التي كانت تلقى من الطائرات على حقول القطن والمحاصيل التي نعمل بها" .

لقد هُجّر المسلمون إلى مناطق آسيا الوسطى وسيبيريا وجبال الأورال، ومع مطلع الخمسينيات بدأت تتشكل لدى المسلمين من تتار القرم حركة مقاومة سرية للحفاظ على هويتهم الثقافية الإسلامية استمرت إلى سقوط الإتحاد السوفييتي.

بدأ المسلمون رحلة العودة بعد تبرئتهم  الشكلية من تهمة الخيانة التي ألحقها بهم السوفييت، رجعوا لمدنهم وقراهم في شبه جزيرة القرم ليجدوا بيوتهم ومساكنهم وأملاكهم قد سكنت وسلبت من غرباء قدموا من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، فاضطروا للسكن في القرى النائية وفي الهضاب والجبال المقفرة، ومساكنهم وقراهم الجديدة افتقرت للحد الأدنى من مقومات العيش الكريم من كهرباء وماء الشرب، وصرف صحي.

تقول الحاجة ديلارا مويدينوفا من مدينة ألوشتا (78): "بدأت الغالبية العظمى من شعب تتار القرم بالعودة إلى وطنهم مع مطلع التسعينيات بعد أن تركوا أو باعوا ممتلكاتهم الصغيرة، والكثير منهم فقد حتى قيمة الأموال التي حصلوا عليها من بيع بيوتهم بسبب الإفلاس وفقد العملة لقيمتها".

وينشد الحاج صبري حسانوف من قرية بيانرسكيا باللغة القرمية التترية وبصوت ندي حزين مستذكرا أناشيد أجداده الذين هجّروا إلى جبال الأورال الباردة في سيبيريا:

جبال الأورال .. جبال الأورال

تلك الجبال الشامخة

تراب وحجارة القرم .. يا مهجة القلب

أبوابنا ونوافذنا .. تُركت مُفتحة

حبيبتي الفاتنة التي عشقتها أكثر من نفسي .. بقيت في الأورال

لا تفرحوا أيها الكفار بأملاك التتار

سنعود .. وتمضون بعيدا

لتحترق جبال الأورال .. لتحترق جبال الأورال .. حتى الرماد

ولتعمى عيون من طردنا من القرم

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

أوكرانيا برس

التصنيفات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022