جلبُ الاستثمارات الأجنبية، شعار رفعته جميع السلطات الأوكرانية المتعاقبة على اختلاف توجهاتها، فهي تجد فيه مخرجا للاقتصاد المتعثر من أزماته المتلاحقة، وحافزا نحو النمو الذي بالكاد يتحقق.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، استقلت أوكرانيا بإمكانيات صناعية وزراعية وبشرية ضخمة، فقد كانت الدولة الثانية من حيث الأهمية الاقتصادية إبان الاتحاد، لكن ذلك لم يمكنها لاحقا من استقطاب بدائل كثر عن الاتحاد الذي أدار مقدراتها.
أغلقت الكثير من كبريات المصانع العسكرية والصناعية والزراعية، وتحولت أوكرانيا شيئا فشيئا إلى دولة مستهلكة تستورد الكثير من حاجياتها الصناعية والغذائية، بعد أن كانت عكس ذلك.
لتوضيح هذه الحقيقة أكثر، تحدثنا إلى السيد ميخايلو خارتشينكو رئيس شركة الخطوط الجوية الأوكرانية "أنتونوف" لنقل البضائع، فقال: "انتونوف على سبيل المثال، كان مصنعا لا مثيل له عالميا لإنتاج الطائرات وطائرات الشحن الضخمة".
وتابع: "بعد الاستقلال، كان المصنع ثقيلا بميزانياته على حكومات أوكرانيا، التي لم تجد فيه حاجة أصلا، فتحول إلى إدارة نفسه بنفسه، وأنشأ شركة خطوط جوية بهدف البقاء على المصنع، والاعتناء بما تركه من طائرات.
وفسر خارتشينكو إحجام الدول عن الاستثمار في المصنع بتراجع الحاجة عالميا إلى الطائرات الضخمة، وتأخره أمام منافسات شركات عالمية اخرى، بالإضافة إلى عوامل "الفساد والأزمات".
الفساد والأزمات
عامل الفساد المستشري لعب الدور الأكبر في صد الدول وكبريات الشركات عن الاستثمار في أوكرانيا، والإحصائيات تشير إلى أنه منذ 1991 حتى 2014 (عام الثورة البرتقالية) تراوح حجم الاستثمار الخارجي بين 200 مليون - 1.7 مليار دولار.
وعود الثورة "الإصلاحية" أنعشت وأسهمت فعلا بتحقيق قفزة في هذا المجال، فقد بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية في البلاد مباشرة إلى نحو 7.8 مليار دولار بعد عام واحد، ووصل في 2008 إلى نحو 10.9 مليارات دولار.
لكن حجم الاستثمار تراجع سريعا بعد ذلك بسبب الأزمات السياسية الداخلية والأزمة المالية العالمية، فوصل مع بداية 2010 إلى 4.8 مليار دولار، قبل أن توجه أزمة 2014 ضربة قاضية إليه، فتراجع إلى نحو 400 مليون دولار فقط.
ضم القرم إلى روسيا واندلاع مواجهات عسكرية في الشرق، كان عامل نفور للمستثمرين، فخلال الأعوام القليلة الماضية لم يتجاوز حجم الاستثمار 3.5 مليارات دولار.
تاراس باتشينسكي يترأس شركة خاصة لدراسة المخاطر وتقديم الاستشارات الاستثمارية، قال: "قلة من المستثمرين لا يهتمون بالأوضاع السياسية، فالأعمال التجارية في بلدنا تعتمد اعتمادا كبيرا على السياسة وعمل الحكومة".
وأوضح: "الاستثمار انهار في 2014، ثم تأثر إيجابا هذا بخطوات التكامل مع الاتحاد الأوروبي، واستقرار الأحداث في الشرق، وحتى بفعل الإصلاحات الأوكرانية، لكنه هذا لم يكن سببا كافيا لإقناع المستثمرين أن المخاطر الجيوسياسية لن تحدث في أوكرانيا؛ هذا بالإضافة إلى أن المناخ الاستثماري يتأثر أيضا بالتوترات والنزاعات والمخاطر العالمية".
ومع ذلك، يعتبر باتشينسكي أن العام 2018 كان مميزا، فقد ارتفع مؤشر استثمار رأس المال في أوكرانيا بنسبة 37.4٪ مقارنة بالعام الماضي، وافتتح خلاله أكثر من 200 مصنع عالمي فروعا في أوكرانيا، مستفيدين من الاستقرار النسبي الذي تحقق، ووفرة اليد العاملة الرخيصة، دون وجود أرقام دقيقة حول حجم هذا الاستثمار.
الدول المستثمرة
عنصر المفاجئة في موضع الاستثمار يبرز عند الحديث عن أكثر الدول استثمارا في أوكرانيا، والمجالات الرئيسية لهذا الاستثمار.
وفقا لتقرير صدر عن دائرة الإحصاء الحكومية مع نهاية عام 2017، تتربع قبرص على رأس الدول المستثمرة في أوكرانيا، بنحو 506 مليون دولار سنويا.
ورغم "الحرب العسكرية والسياسية والتجارية وغيرها" بين كييف وموسكو، إلا أن روسيا احتلت المركز الأول بين الدول المستثمرة في أوكرانيا لمدة 6 أشهر خلال عام 2018، بنحو 436 مليون دولار.
ثالثا تحل هولندا بحجم استثمار يبلغ 262.5 مليونا، تليها بريطانيا بنحو 211.7، ثم ألمانيا بنحو 119.3 مليون دولار.
المحلل الاقتصادي أندريه نوفاك اعتبر في حديث مع الجزيرة نت أن روسيا تبقى في الصدارة، موضحا أن الاستثمار القبرصي هو في الحقيقة استثمار عكسي للمجموعات الصناعية الأوكرانية الكبيرة، التي سحبت أصولها إلى الخارج بعد 2014 بهدف التهرب الضريبي.
ويضيف نوفاك: "غالبية الاستثمارات الأجنبية تتم بواسطة شركات وبنوك روسية، أعادت هيكلة نفسها بمسميات أخرى، والحقيقة أنه لولا هذا الأمر لاتجه الاستثمار الخارجي في أوكرانيا نحو العدم، على حد قوله.
مجالات الاستثمار
هذا وبحسب دائرة الإحصاء الحكومية، فإن أبرز مجال تقصده رؤوس الأموال الأجنبية هو تمويل المشاريع والتأمين، بنحو 647.5 مليون دولار في نهاية 2017، وهنا الصدارة لكل من قبرص وروسيا.
يلي ذلك مجال الصناعة والصناعات الغذائية، بنحو 523.4 مليون دولار، وفيه تبرز روسيا وهولندا أكثر من غيرهما.
ثم يأتي مجال تجارة الجملة والتجزئة وتجميع السيارات بنحو 178.4 مليون دولار، وكذلك شراء وبناء وبيع العقارات وإصلاح الطرق والطاقة بنحو 117.9 مليونا، وهنا تبرز كل من قبرص وروسيا وألمانيا معا، وكذلك تركيا.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
الجزيرة
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022