لم تصل أي انتخابات أوكرانية سابقة إلى ما وصلت عليه الانتخابات الرئاسية الحالية من مظاهر وعبارات "التخوين والتشكيك والطعن بالنزاهة"، فباتت كأنها حرب حقيقية "شخصية" معلنة، بين الرئيس الحالي بيترو بوروشينكو وفنان الكوميديا الاستعراضي فولوديمير زيلينسكي.
لعل من آخر وأبرز مظاهر هذه الحرب انتشار صور انتخابية لبوروشينكو في شوارع المدن ووسائل التواصل، يصور فيها خصمه زيلينسكي على أنه "بوتين"، وكأن الناخبين سيصوتون في جولة الحسم المقررة بتاريخ 21 أبريل الجاري، إما لفوز رئيس أوكراني الهوى، أو لنصر يحققه الرئيس الروسي بوتين على البلاد بفوز شخصية زيلينسكي.
وكانت جولة الانتخابات الأولى في 31 مارس الماضي قد أسفرت عن صعود كل من بوروشينكو بنحو 15% من الأصوات، وزيلينسكي بنحو 30%.
تحدي المناظرة
بدأت حرب الشخصيتين مباشرة بعد نتائج الجولة الأولى، بإعلان فريق حملة بوروشينكو أن "المناظرة" التلفزيونية مع زيلينسكي ستوضح الكثير من الأمور، وستغير آراء الناخبين، فكان واضحا أن المناظرة وسيلة رئيسية لإحداث تغيير نوعي يقفز بشعبية بوروشينكو ويعزز احتمال فوزه، الذي بات صعبا.
رد حملة زيلينسكي جاء سريعا ومفاجئا، أعلن فيه المرشح أنه يتحدى بوروشينكو بإجراء مناظرة أمام 70 ألف متفرج في الملعب الأولمبي بالعاصمة كييف، الأمر الذي قبله الأخير، مع أن القوانين تحدد أن تكون المناظرة في مقر التلفزيون الرسمي.
توقع الكثيرون أن تكون الموجهة في 14 أبريل، ولكن زيلينسكي غاب عنها، ليتهمه بوروشينكو بالكذب والضعف والعجز عن المواجهة، ويؤكد أنه سيطالب بإجراء المناظرة أصولا وفق القانون بمقر التلفزيون الرسمي.
لم يكترث زيلينسكي بهذا الحدث، بل استمر بنشر صور ومقاطع رياضية وساخرة وعامة، عبرت في مجملها عن حالة ثقة بالنصر، وعن أن بوروشينكو في "أزمة حقيقية".
وهنا ترى شريحة من المراقبين أن قوة خطاب بوروشينكو كسياسي قادرة فعلا على التأثير، ولهذا يتهرب زيلينسكي من اللقاء، خاصة وأنه لا يجيد التحدث كفنان في أمور السياسية، إلا إذا كتب نصها "كتاب السيناريو".
لكن آخرين يعتبرون أن فريق حملة زيلينسكي تعمد هذا الأسلوب، ونجح بجر بوروشينكو إلى معترك استعراضي يجيده زيلينسكي، فشكل حالة فكاهة لدى العامة، صبت في صالح زيلينسكي كنجم فني ساخر مجددا.
الخيانة والعمالة
بعد تحدي المناظرة، دخل الجانبان في تحديات واتهامات أخرى، تعلق بعضها بإجراء فحوصات الصحة والإدمان التي دعا إليها زيلينسكي طعنا في بوروشينكو، وانتشرت بعدها صورهما الواثقة في المراكز الصحية.
ثم ظهرت مقاطع فيديو جريئة ساخرة، صورت كلا المرشحين على أنهما "مدمنان"، إضافة إلى مقاطع وصور رسمية أخرى تتحدث عن "الكذب والغباء والتهريج" وغيرها.
لكن أجواء حالة الاستقطاب الرئيسة بين الجانبين تركزت على موضوعات "الخيانة والعمالة والولاء والضعف"، فحملة بوروشينكو تتهم زيلينسكي بالتبعية والولاء لروسيا (كما سبق ذكره)، ولرجل الأعمال الشهير إيهور كولومويسكي المعادي لسلطة بوروشينكو.
وتتهم حملة زيلينسكي بوروشينكو بالفساد والكذب على البسطاء، خاصة فيما يتعلق بوعود إنهاء الحرب ورفع مستويات المعيشة، وكذلك زيادة حجم ثروته ومساحة انتشار محلات شركته "روشين" للشوكولاتة في أوكرانيا.
قسم المجتمع
وفي ظل ما سبق، يرى مراقبون أن حالة الاستقطاب هذه ستنعكس آجلا أم عاجلا على المجتمع بشكل خطير، وقد ترجح انقسامه بين شرق وغرب، وخلق احتجاجات كبيرة في المستقبل، تزيد من حالة الاحتقان السياسي، وتمدد أجل أزمات البلاد.
فبوروشينكو (الذي يشهر العداء لروسيا) يتمسك بأوكرانية وأوروبية الدولة لغة وثقافة وتاريخا ومستقبلا، ويتهم خصمه بتعمد استخدام الروسية بدلا عن اللغة الوطنية، وهو (زيلينسكي) لا يعارض صراحة دعم اللغة الروسية كلغة رئيسية ثانية، وهذه من العوامل التي لطالما قسمت آراء الأوكرانيين.
كما روج زيلينسكي في مسلسلاته وأفلامه إلى "حيادية الدولة"، وأهمية أن تكون قراراتها المصيرية مرتبطة باستفتاءات شعبية، وفي هذا إشارة إلى قضايا العضوية في الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو".
أما بوروشينكو، فوضع هذه العضوية على رأس وعوده الانتخابية، متعهدا بأن تكون أوكرانيا جزءا من الاتحاد في 2023، ثم تمضي بعد ذلك نحو عضوية كاملة في الحلف، وأشار بعض المسؤولين المقربين منه مؤخرا إلى أن هذا الأمر لا يحتاج إلى استفتاء، لأن فيه توجها أقر دستوريا قبل أسابيع.
المواقف الدولية
وانطلاقا من هذه "الميول والتوجهات"، بدأت مواقف الدول تتضح إزاء ما تفضله من نتائج انتخابية، بعد حالة صمت وترقب سادت قبل وأثناء الجولة الأولى.
روسيا أعلنت صراحة أنها مستعدة للحوار مع زيلينسكي كرئيس حول الأزمة في شرق أوكرانيا، وهي التي شددت مرارا على أنها ترفض الحوار مع بوروشينكو، وفي هذا إشارة إلى أنها مستعدة لتقديم تنازلات تدعم موقف زيلينسكي في الانتخابات، وموقف الأوكرانيين الراغبين بوقف الحرب وتحقيق الاستقرار.
أما الغرب الذي كان حليفا سياسيا واقتصاديا وعسكريا لبوروشينكو خلال السنوات الخمس الماضي، فعبر عن مخاوفه من فقدان هذا "الحليف"، وعمل مؤخرا على دعمه من وراء حجاب، مع السعي لتحقيق ضمانات "في أسوا الاحتمالات"، إن صح التعبير.
دعم تجلى مؤخرا بتصريحات أوروبية عدة أيدت مساعي أوكرانيا نحو عضوية الاتحاد الأوروبي و"الناتو"، وبعدول الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا عن قرار إعادة النواب الروس إلى عضوية الجمعية، ثم بمباحثات سويدية في موسكو حول الأزمة الأوكرانية، تحدثت عن "خلاف في وجهات النظر".
كما سلمت برلين إلى كييف فرمانا صادرا عن الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر في عام 1708، يلحق مطرانية كييف ببطريركية موسكو، وفي هذا دعم لبوروشينكو الذي أعلن قبل أشهر استقلال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن بطريركية موسكو، وإلحاقها مجددا ببطريركية القسطنطينية.
الولايات المتحدة أعادت فتح ملف القرم مجددا، الذي كان أساسا وبداية لسلسلة عقوبات غربية على موسكو، وفرّق وزير خارجيتها مارك بومبيو بين "الاحتلال الروسي" و"سيادة إسرائيل" على هضبة الجولان.
ولأن الغرب يخشى أن تضيع جهوده وأمواله على ما يبدو، أعلنت كندا أنها ستضيف مؤتمرا حول "مصير الإصلاحات الأوكرانية"، التي دعمها الغرب سياسيا واقتصاديا، وفي شتى المجالات، حتى العسكرية.
وأخيرا، استضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس كلا من بوروشينكو وزيلينسكي، الأمر الذي فسر من قبل غالبية المراقبين على أنه جس نبض للآراء والرؤى في مرحلة ما بعد الانتخابات.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
أوكرانيا برس
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022