من الذي يقوم سرا بتمويل "عسكرة أوكرانيا"؟

نسخة للطباعة2025.10.25
عبد الرحمن عكل

مع بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا او كما تسميه روسيا بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا كان اول واهم اهدافها ايقاف والغاء تسليح أوكرانيا التي يعتبرها النظام الروسي الحالي كيانا عدوا بشكلها الحالي, لذلك فأن أهم اهداف العملية العسكرية فعليا هو اما انهاء الوجود الأوكراني تماما بمعنى انه لا يبقى شيء اسمه الدولة الأوكرانية او على الأقل وصول الى دولة أوكرانية ضعيفة لا تشكل اي خطر من أي نوع على الدولة الروسية
الغريب فعليا أن روسيا كانت تملك بالفعل اتفاقية تضمن بالضبط هذه البنود وهي اتفاقية بودابست 1994 والتي بموجبها تتخلى أوكرانيا عن برنامجها النووي بالكامل وتسلم اسلحتها بعيدة المدى الى روسيا مقابل ضمانات امنية من اهم دول الناتو أمريكا وبريطانيا جنبا الى جنب مع روسيا
على هذا الاساس وعلى الرغم من ان الجامعات الاوكرانية تملك ذخر من المهندسين الذين كانت لهم مساهمة قوية جدا في تسليح الاتحاد السوفيتي الا ان التوجه الاوكراني العام كان لاعادة بناء الدولة سلميا وعدم الاهتمام الحقيقي بسباق التسليح على اعتبار انه لا يوجد عدو يهدد الدولة الاوكرانية الحديثة وان الدولة الحديثة بحماية امنية لدول من اكبر واقوى دول العالم ( أمريكا وبريطانيا وروسيا ) حسب اتفاق بودابست

وبمأ أن السردية الروسية عن أن اوكرانيا اصبحت خطر لم تتعدى كونها حجة لاحتلال الاراضي الاوكرانية فأنه وقبل عام 2022 لم يحصل اي هجوم اوكراني على الاراضي الروسية على الرغم من ان روسيا تحارب على الاراضي الاوكرانية لاكثر من 8 سنوات وتحتل اقليم القرم كامل ومناطق واسعة من اقليم الدونباس مما يؤكد خطر الروس على الأوكران وليس العكس!
مع ذلك حاول الأوكران بحكمة ادارة العمليات العسكرية على الاراضي الاوكرانية دون التوسع باتجاه روسيا فما كان من روسيا التي تبحث عن ذريعة للهجوم على أوكرانيا الا ان تعتبر الاراضي الأوكرانية "بموجب الأمم المتحدة واتفاقيات ترسيم الحدود واتفاق بودابست وتوكيدات بوتن نفسه على وحدة الاراضي الاوكرانية على الاقل لحد عام 2008" أرضا روسية لتطلق حربها "الدفاعية" بحسب زعمها

هل ادت الجهود الروسية الى الغاء تسليح الأوكران؟

بكل الأحوال وبغض النظر عن سردية كل طرف من الواضح ان احد أهم الاهداف الروسية باتفاق جميع الجهات هي ان تصبح اوكرانيا بدون سلاح وهو أمر حاول بوتن بالفعل العمل عليه دبلوماسيا حتى قبل حربه عام 2022 من خلال التدخل في الانتخابات الأوكرانية عام 2019 ضد الرئيس الأوكراني السابق باراشينكو ليدعم بوتن عدة مرشحين بسبب اصرار باراشينكو أن الحرب مع روسيا قادمة لا محالة ويجب الاستعداد لها وصرفه على الذخيرة والسلاح في اوكرانيا مقابل عدد من المرشحين اخرهم كان زيلنسكي الذي كانت حملته تركز على ان السلام ممكن مع روسيا من خلال التهدئة والتفاوض وان تسليح اوكرانيا لن يجر الا لاستفزاز روسيا اكثر ولن يؤدي اي نفعا! وبالفعل مع وصول زيلنسكي وحزبه الى الحكم بدأ التركيز على برامج تصليح الطرق والاهتمام بالنية التحتية بدل الاهتمام بالتسليح ويتهم ناشطين اوكران زيلنسكي وحزبه بعدم الاهتمام الكافي للحرب ويضعون اللوم عليهم في أن الجيش الأوكراني لم يكن مستعد فعليا بشكل كافي عند بدأ الهجوم المباغت الذي فاجأ العالم على اوكرانيا عام 2022 الامر الذي استفادت منه روسيا لتكون معظم المناطق التي احتلتها روسيا في هذه الحرب قد سيطرت عليها اما خلال حرب 2014 او خلال الايام والاسابيع الاولى من حرب 2022 عندما كان الجيش الأوكراني تحت وقع المفاجأة ولا يزال ضعيفا نسبيا مما ادى الى سقوط مدن مهمة اخرها ماريوبل في عام 2022! من بعدها لم تستطع القوات الروسية السيطرة على أي مدينة أوكرانية يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة قبل الحرب!

كل ما ورد لا يجاوب على السؤال المطروح في بداية المقال! ان كان الهدف الروسي الواضح في تفكيك التسليح الاوكراني وابعادها عن الناتو فكيف أصبحت أوكرانيا اذا بهذا التسليح الذي سمح لها الضغط على روسيا في الشمال ثم استعادة مناطق واسعة في خاركوف قبل انسحاب الروس من مدينة خيرسون وتهميش الاسطول الروسي في البحر الاسود بدرجة كبيرة بعد ان كان يحكم السيطرة ويضيق الخناق على الاوكران!
الجواب الواضح: أمريكا – الناتو – أوربا
لكن هذا ليس الجواب الدقيق!

لماذا تسلح أوربا أوكرانيا؟

لا تعمل هذه الدول على اساس انها منظمات خيرية وقد رأينا انه مع تغير النظام الامريكي لم يعد نظام ترامب يرسل اي سلاح مجاني لأوكرانيا مطلقا! بل اصبح يعتبر ان الحرب الروسية الاوكرانية شأن اوربي داخلي وفرصة لبيع الاسلحة لاوربا! والسؤال هو اذا طالما ان امريكا لم تعد تسلح أوكرانيا مباشرة لماذا يصر الأوربيين على تسليح أوكرانيا؟

الحقيقة هي أن بوتن الذي اصبح مهووسا باحتلال أوكرانيا مهما كلفه الأمر لم يعد سعيدا ابدا بدعم اوربا لاوكرانيا بعد ان نجح في دعم المرشح الافضل له للبيت الابيض وتحييد البيت الابيض عن هذه الحرب! ليصبح الخصم الرئيسي في دعم الأوكران هم الاوربيين! لذلك بدأ بوتن بشن عمليات مختلفة على اوربا والمدن الاوربية اخرها طلعات جوية لطيارات مسيرة لتهديد اوربا انها ان تدخلت في حرب بوتن على أوكرانيا سيكون للامر عواقب! بالفعل قد نجحت تلك العمليات بشكل او بأخر بتهديد بعض الانظمة في اوربا خاصة وان الجيش الروسي الذي كان منهكا في اوكرانيا استطاع بعد استعادة كورسك من تدريب وحدات عسكرية جديدة لا يوجد معلومات عن مشاركتها في اوكرانيا مما يعني انها قادرة على المشاركة في اي عمل عسكري في مكان في اوربا لحظيا بمجرد وجود اوامر عليا
يستغل بوتن هذه الورقة الجديدة لتخويف الاوربيين لتركهم أوكرانيا وشأنها كي تقع في المخالب الروسية دون اي مساعدة حقيقية! وبذلك يفترض بوتن انه قد يحل معضلة التسليح الأوربي لأوكرانيا
هناك مشكلة لم ينتبه لها بوتن! وهي ان لكل تصرف عسكري وسياسي ردات فعل قريبة المدى واخرى متوسطة وبعيدة المدى! فنجاح ترامب في الانتخابات الامريكية وتهديده للدول الأوربية انه لن يحميها متزامنا مع الهجمات الروسية اخاف الاوربيين من جهة ولكنه يحرضهم فعليا على بناء جيش أوربي يحمي أوربا من الاخطار ويوضح ان هذا الامر لم يعد رفاهية بل ضرورة حتمية تمليها السياسات الروسية التي لا يمكن التنبوء بها! بمعنى اخر كل طيارة بدون طيار يرسلها بوتن الى اوربا تؤكد دعاية الحكومة الاوكرانية على أن أوكرانيا لا تدافع فقط عن أوكرانيا وانما عن الامن الاوربي كله وان سقوط اوكرانيا يعني بالضرورة خطر مباشر على كثير من الدول الأوربية
لهذا السبب تحديدا وعلى الرغم من تراجع شهية الانظمة الاوربية مع تصاعد التيار اليميني الداعم للسردية الروسية عن دعم أوكرانيا فجأة ومع انتصار ترامب جد الاوربيين أنفسهم وجها لوجه وحيدين ضد روسيا في حال قررت روسيا تكرار المغامرة الاوربية في بولندا او البلطيق او اي مكان اخر
لهذا السبب وبعد اعلان ترامب ان أمريكا بالنسبة له دائما وابدا ستبقى اولا بدأ هناك خوف حقيقي من تخلي الولايات المتحدة الامريكية عن أوربا التي كانت تستثمر في الاقتصاد والصناعة وتهمل التسليح! الان تغيرت المعادلة! على أوربا ان تستثمر في التسليح وعليها ارسال السلاح الى اوكرانيا لتأجيل اي سقوط اوكراني كي تستمر الحرب بعيدة عن العواصم الغربية!
وبالتالي فأن استفزاز بوتن المستمر وسياسته كانت وستبقى اهم الاسباب التي حولت اوكرانيا من بلد يستثمر في الزراعة وناشئ في الاقتصاد الى بلد يستثمر شعبه ويستثمر جيرانه فيه كي يكون حصنا عسكريا منيعا! ويزيد في ذلك وجود عدد كبير من مهندسي الحقبة السوفيتية وما بعدها من مهندسين يملكون التقنية وكانوا يفتقرون الى الاستثمار المادي والى توجه الدولة للتحول الى التسليح! الامر الذي حصل بعد حرب بوتن عام 2022!
ان استمرار الحرب الروسية على اوكرانيا طويلة الامد يفرض على الاوربيين ايجاد بدائل اقتصادية لتمويل هذه الحرب المكلفة جدا لتصبح الودائع الروسية الطريقة الوحيدة لتمويل اوكرانيا للدفاع عن اراضيها ضد الغزو الروسي! بمعنى اخر طالما ان الغزو الروسي مستمر يفرض هذا الامر على الاقتصاد الاوربي صرف النقود الروسية المجمدة على هذا الحرب العبثية! نعم وبسبب القرارات الروسية يضطر الاوربيين لصرف النقود الروسية على تسليح الأوكران!

أوكرانيا والناتو

قد يقول قائل ولكن على الاقل استطاعات روسيا ابعاد اوكرانيا عن الناتو! الحقيقة هي ان الاوكران اصلا لم يكونوا يفكرون في الناتو لولا الغزو الروسي عام 2014 " نفس الامر ينطبق على السويد وفنلندا بعد غزو روسيا عام 2022"
ولكن ومع انه قانونيا لا تملك روسيا الحق بالمطالبة بضمانات عدم دخول اوكرانيا الى الناتو لان الامر يخص فقط اوكرانيا والناتو الى ان روسيا بالفعل كانت وربما لا تزال امام فرصة ذهبية بعد انتصار ترامب بموجبه اي اتفاق للسلام قد يتضمن ضمانات واضحة بعدم دخول اوكرانيا الى الناتو ربما حتى للابد. المشكلة هي ان ترامب الذي كان يريد تقاسم العالم مع بوتن هو ايضا وكما حصل مع زيلنسكي بدأ بالتحول وخيبة الأمل بالروس وببوتن شخصيا بعد التعنت الروسي الرهيب في المفاوضات ليخدم بوتن مرة ثانية زيلنسكي ويؤكد ان ما قاله زيلنيسكي في البيت الأبيض في زيارته الاولى وسبب اعصار البيت الابيض الذي انتهى بطرد الرئيس الاوكراني اثبت بوتن ان زيلنسكي كان محقا عندها وأن بوتن غير مهتم بالسلام الفعلي وانه حتى لو تم اجبار أوكرانيا على تنازلات مؤلمة فأن الطرف الروسي لا يقدم اي ضمانات حقيقية لانتهاء الحرب بشكل قطعي!
اذا سياسة بوتن في المفاوضات تخلق مشكلة لبوتن ان نافذة احتمال اتفاق يتضمن ضمانات بعدم دخول اوكرانيا الى الناتو اصبح يتصاغر وربما بعد فترة يصبح ترامب غير مهتم! بالمقابل فأن سياسة بوتن في التدخل في اوربا وترهيبها ايقظ الاوربيين كما قلنا سابقا على فكرة ضرورة وجود جيش أوربي يحمي اوربي ليرفع بوتن فجأة بحربه على اوكرانيا من قيمة اوكرانيا كعنصر مهم لأمن اوربا ل 3 اسباب مهمة جدا الاول انها خط الدفاع الاول والثاني هي انها خزان كبير من الجنود المدربين جدا "بسبب هذه الحرب" والسبب الثالث المتعلق هي الخبرة الاوكرانية الكبيرة التي اصبح من المطلوب لاوكرانيا نقلها الى باقي الدول وتدريب الجيوش الاوبية! نعم الحرب الروسية على اوكرانيا جعلت البلد الزراعي صاحب الاقتصاد الناشئ يحمل قيمة عسكرية مهمة جدا تحديدا للاتحاد الأوربي, مما جعل انضمام اوكرانيا الى الاتحاد الاوربي امر شبه حتمي واعاد فرص دخول اوكرانيا الى الناتو على الرغم من صعوبة الموضوع لوجستيا
الامر الاخر هو ان الهجوم الروسي بالدرونات يركز على الخبرة الاوكرانية تحديدا في مجال التعامل مع الصواريخ والدرونات مما يعلي من قيمة الخبرة الاوكرانية في عيون الاوربيين
اذا الغريب والمدهش هو أن كل عمل قام به بوتن كان السبب الرئيسي في تسليح أوكرانيا وسياسته الحالية ترغم كل من الناتو او اوربا واوكرانيا على التقارب من بعضهم البعض, قد ينجح بوتن بتعطيل دخول اوكرانيا للناتو عن طريق المجر او اي دولة اخرى لكن الاوربيين لربما يبحثون عن صيغة بديلة للتعامل المباشر مع الجيش الاوكراني فمع استمرار هذه الحرب تزداد قيمة الجيش الاوكراني في عيون الاوربيين وضرورته, خاصة انه الاقدر على التعامل مع الجيش الروسي
الجهة السرية التي كانت السبب المباشر لاعادة اوكرانيا من واقع 1994 عندما سلمت سلاحها برغبتها لروسيا هو بوتن وسياسته, استمرار هذه السياسة يضمن تسليح ليس فقط اوربا بل اغلب الدول المجاورة لروسيا في اوربا والخائفة من تكرار سيناريو مولدافيا وجورجيا واوكرانيا على أراضيهم ليستمر بوتن كأحد اهم القوى السياسية العاملة "بدون قصد" على تقوية وتسليح وزيادة مساحة حلف الناتو

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

العلامات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022