توافد آلاف الطلاب العرب والمسلمين من مختلف الدول من الدول العربية والإسلامية على الإتحاد السوفيتي للدراسة في جامعاته ومعاهده العلمية وفي عدة فروع ومجالات أهمها: الفنون والآداب والعلوم السياسية والعلوم الطبية والهندسية والدورات العسكرية وغيرها، وقدم هؤلاء الطلبة من العراق والمغرب والجزائر وسوريا ومصر والسودان واليمن والصومال وفلسطين والمالديف والباكستان ونيجيريا ومالي وغيرها من البلاد الإفريقية.
وبعد انهيار الإتحاد السوفيتي، وفي السنوات العشر الأولى من استقلال أوكرانيا، وبسبب عدم وجود مساجد لأداء الشعائر الإسلامية ظهرت حاجة ملحّة لوجود أماكن للصلوات الجماعية (مصلّيات) في المدن الأوكرانية، فقد شاع مناخ الحرية وتواجد الآلاف من المسلمين من الأجانب والمحليين (التتار، الأذر، القوقازيون..) موزعين على مختلف المدن، فكان الحل في فتح مصليات في السكنات الطلابية الجامعية لإقامة الصلوات الخمس وصلاة الجمعة، أو استئجار بعض القاعات الكبيرة والصالات الرياضية لهذا الغرض، كذلك بدأ المسلمون التتار بالمطالبة بأوقافهم ومساجدهم التي تحولت إلى مطابع ومخازن ومساكن، وغيرها.
ويمكن تقسيم دور الطلبة العرب في بناء وإحياء المساجد في أوكرانيا إلى ثلاث مراحلة:
المرحلة الأول: فتح مصلّيات لإقامة صلاة الجمعة والعيدين في السكنات الجامعية.
المرحلة الثانية: استئجار مقرات ومصليات دائمة للعمل الإسلامي.
المرحلة الثالثة: بناء المساجد والمراكز الإسلامية في أوكرانيا.
فكانت المرحلة الأول متمثلة في فتح مصلّيات لإقامة صلاة الجمعة والعيدين في السكنات الجامعية، فقد تم فتح أكثر من عشرة مصليات في عدة مدن أوكرانية.
أنبه هنا إلى أن هذه المقالة تحوي بعض التفاصيل التي قد لا يدركها إلا من عاش في تلك المرحلة وتلك الأماكن.
شبه جزيرة القرم
قام الإتحاد السوفييتي بتهجير قسري لمسلمي تتار القرم عام 1944م عن وطنهم إلى مناطق مختلفة في سيبيريا وجبال الأورال ووسط آسيا، وقد سمح لعدد قليل جدا منهم وبشروط في العودة بدءا من مطلع السبعينيات، ومع نهاية الثمانينيات كان يتواجد في القرم حوالي عشرة آلاف مسلم من تتار القرم.
وأول صلاة جمعة علنية أقامها المسلمون في مدينة سيمفروبل عاصمة القرم كانت أواخر عام 1990م في العهد السوفييتي، وذلك على أنقاض "الجامع الكبير"، حيث حول الشيوعيون مبنى المسجد إلى مطبعة، ثم تهدم المبنى، وقد كان عدد المصلين التتار في هذه الجمعة لا يتجاوز العشرة، بينهم اثنين من الطلبة العرب الذين كانوا يدرسون في هده المدينة.
وهنا بدأ التتار المسلمون في القرم بالتجمع كل جمعة في الأماكن التي كانت مساجد لهم قبل أن يغير معالمها النظام السوفييتي، وبدأت المطالبات باستراد هذه المساجد ونقل ملكيتها إلى المسلمين.
العاصمة كييف
حسب شهاداة الطلبة في تلك المرحلة فإن أول صلاة جامعة في مدينة كييف كانت صلاة أحد الأعياد في عام 1989م أقيمت في مدرسة عسكرية بوساطة وتنظيم من ضباط ليبيين كانوا يقومون بأداء دورة تدريبية عسكرية، وقد كان خطيبا في هذه الصلاة ضابط عراقي. وقبل هذا التاريخ في شتاء عامي 1984 و 1985م كانت تقام صلاة الجمعة في سكن جامعة الطيران بشكل غير علني، وكان يحضرها من 15-20 طالب.
مدينة خاركوف
كانت مدينة خاركوف أحد أكثر المدن في الإتحاد السوفيتي بعد موسكو ولينيغراد التي تضم جامعات ومعاهد وتخصصات منتوعة، لذا كان يسكنها آلاف الطلبة الأجانب.
وحسب شهادات الطلبة التي جمعتها فإن أول صلاة عيد في خاركوف أقيمت في العام 1985م في غرفة أحد الطلبة في سكن جامعة الهندسة المعمارية "خي سي" على شارع السومسكايا، ثم بدأ الشباب الملتزم في خاركوف بصلاة الجمعة في إحدى السكنات الجامعية عام 1987-1988 في سكن جامعة الهندسة" خ بي يي" في غرفة أحد الطلاب وكان عددهم حوالي العشرة مصلين فقط.
ثم تم افتتاح ثلاث مصليات في مدينة خاركوف عام 1991م في السكنات الطلابية في أماكن مختلفة، وأصبحت هذه السكنات أماكن للصلوات اليومية والجمعة، وكذلك مقرات لدروس نهاية الأسبوع الشرعية الثقافية بالتناوب، وفي عام 1992م تم استئجار قاعة كبيرة في جامعة "بوليتكنيك" لصلاة العيد، وكانت أول مرة تقام فيها صلاة جمعة موحدة في المدينة، وكان عدد الطلاب الملتزمين في المدينة حوالي 200 طالبا، والمقصود بالملتزمين حينها أولئك الذين يصلون، ولا يقربون الحرام.
مدينة زبروجي
أما أول صلاة جمعة في مدينة زبروجي فكانت عام 1989م في غرف سكن الطلاب، وأول صلاة جمعة علنية نوعا ما كانت في غرفة أحد الشباب السودانيين في سكن الهندسة المدنية عام 1990 أو 1991م، وفي عام 1992 قدم لمدينة زبروجي حوالي 40 طالب عربي من الكويت للدراسة على حسابهم و أغلبهم من الفلسطينيين فأقيمت الصلاة في سكنهم بشكل علني.
في عام 1993م وعندما أصبح هؤلاء الطلاب في السنة الدراسية الأولى تم التحرك عن طريقهم لأخذ مصلى دائم في السكن الأول للجامعة الطبية على الطابق التاسع، وأصبحت تقام فيه الصلوات الخمس، ثم تقدموا بعد ذلك بطلب لأخذ قاعة إضافية في الطابق العاشر من نفس السكن للطالبات.
مدينة لفوف
بشهادة أحد الطلبة السودانيين الذي واكبوا تلك المرحلة ودرسوا في مدينة لفوف : "أول صلاة جمعة أقيمت في مدينة لفوف كانت في غرفتي بالسكن الطلابي عام 1990، وكنت أنا خطيبا بالطلاب، والدخول سراً لها وللمُبَلّغين فقط خوفاً من غدر الأمن والطلاب الشيوعيين، ثم تزايدت الأعداد حتى أن بَعضُنَا كان يسجد على ظهور بعض، ولكنها كانت أجمل صلاة أذكرها، وهكذا كان الحال في مدن الاتحاد السوفييتي كلها، وكانت تضحية كبيرة يقدمها الطلاب أصحاب الغرف التى يتم فيها إقامة الصلاة، فلقد كانوا معرضين لخطر الإعتقال والحبس والفصل من الدراسة والأبعاد من البلاد" .
مدينة دونتسك
وفي مدينة دونتسك بشرق أوكرانيا أقيمت أول صلاة جمعة جامعة حسب شهادة بعض من عاصر هذه المرحلة في عام 1989 مباشرة بعد إحياء ذكرى المولد النبوي في غرفة أحد الطلبة في الطابق السابع من السكن التاسع التابع لجامعة الهندسة.
وفي أوائل عام 1993م أقيمت في صالة السكن التاسع لجامعة الطب على الطابق الخامس، وقد كانت القاعة قبل ذلك لتعليم الرقص، ثم فتح مصلى في السكن الثامن على الطابق العاشر التابع لجامعة الهندسة.
مدينة دنيبرو
يجب أن تذكر بداية أن مدينة دنيبرو وكانت تسمى زمن الشيوعيّة ولعقدين بعد استقلال أوكرانيا ب دنيبروبتروفسك، وكانت من المدن السوفيتية المغلقة أي يمنع دخول الأجانب إليها، واستمر هذا إلى العام 1987م، وذلك لأسباب عسكرية ففيها كان مصنع للصواريخ التي تحمل الرؤوس النووية.
أول صلاة جمعة في دنيبرو كان عام 1992م بثلاث أشخاص في غرفة أحد الطلاب اللبنانيين بسكن جامعة التعدين، وفي أواخر عام 1992م من السنة الدراسية (1992-1993) تم افتتاح مصلى دائم في السكن الأول في جامعة الطب، وذلك بعد تشكيل وفد مكون من شابين لبنانيين وشابين سودانيين وشاب فلسطيني إلى إدارة الجامعة "الديكانات" لأخذ إذن لذلك، وكان هذا أول مصلى جامع في مدينة دنيبرو.
مدينة فينتسا
أول صلاة علنية أقيمت عام 1991م في مصلى في السكن الرابع في جامعة الهندسة حضرها حوالي 15 طالب من جامعة الهندسة فقط، وقد أعطي المصلى بشكل دائم ل "رابطة الشباب المسلم" في مدينة فينتسا، وهي هيئة غير مسجلة مكونة من مجموعة من الطلبة المسلمين، والتي كانت تشرف على العمل الدعوي، والطلبة المسلمون المتواجدون في المدينة وقتها كانوا من بنجلاديش والمغرب وفلسطين واليمن والأردن والهند والسودان ونيجيريا وغينيا.
ونظرا لصعوبة حضور طلاب جامعة الطب لسكن جامعة الهندسة لذا قرر شباب الرابطة أن تعقد الصلاة مرة في سكن جامعة الطب ومرة أخرى في سكن جامعة الهندسة بالتناوب.
وأول صلاة عيد عامة كانت في سكنات جامعة الطب في نفس السنة عام 1991م، وذلك في قاعة الاجتماعات في السكن الثاني من الجامعة.
مدينة لوغانسك:
كانت المدينة تسمى قبل عام 1990م فوراشيلوفغراد، وقد أقيمت أول صلاة الجمعة في المدينة عام 1990م في سكن جامعة الطب بغرفة أحد الطلاب اليمنيين، وكان يحضرها عدد قليل من الطلاب ستة أو سبعة وبشكل غير معلن، وأول صلاة للعيد أقيمت عام 1992م في السكن الثالث لجامعة الطب.
المرحلة الثانية: استئجار مصليات ومقرات دائمة للعمل الإسلامي
بعد نَيل أوكرانيا حريتها في 24 أغسطس من عام 1991م، بدأ العمل الدعوي الطلابي يأخذ منحى العلن والإنفتاح والوجود الرسمي، و يذكر الدكتور باسل مرعي رئيس اتحاد الرائد في الفترة بين (2012- 2016م) في هذا الصدد أنه: "في بداية العمل في 1992م اكتشفنا الكثير من الشباب والطلاب الذين كانوا يحملون الفكر الإسلامي الوسطي، واكتسبوا هذا الفكر عن طريق الكتب الإسلامية". وبدأ الدعاة من الطلاب بالتعرف على القوانين الجديدة لأوكرانيا، ودراسة إمكانية فتح جمعيات طلابية واجتماعية رسمية".
وقد بدأت هذه المرحلة بتسجيل عدد من الجمعيات، ومجالس إدارات وجمعيات عمومية، ووضع لوائح وأنظمة تضبط عملها للإنتقال من مرحلة العمل الفردي إلى العمل الجماعي المؤسسي المنظم، ليتشكل فيما بعد اتحاد المنظمات الإجتماعية "الرائد" ومقره العاصمة كييف.
اتحاد المنظمات الإجتماعية "الرائد" في أوكرانيا: هو مؤسسة أوكرانية اجتماعية ثقافية دعوية تعمل على التعريف بالثقافة الإسلامية وخدمة المجتمع الأوكراني، وتمثل تجمعا لعشرين جمعية اجتماعية ثقافية تنتشر في شتى المدن الأوكرانية، تأسس الإتحاد في فبراير من عام 1997م.
وهنا بدأ استئجار مقرات دائمة للصلوات اليومية والجمعة في أماكن تواجد الطلبة، تنظم فيها دروس تعليمية للطلبة من الشباب والفتيات، وكذلك للمسلمين المحليين وأبنائهم، كذلك تقام فيها الإفطارات الجماعية والمناسبات الإسلامية والإجتماعية المختلفة.
يقول د. اسماعيل قاضي والذي ترأس اتحاد الرائد بين العامين (2005- 2011م) "لقد أصبح اتحاد "الرائد" من أكبر مؤسسات المجتمع المدني وحظي بالإحترام والتقدير الكبيرين لما قدمه من خدمات جليلة ساهمت في تنمية المجتمع الأوكراني".
المرحلة الثالثة: بناء المساجد والمراكز الإسلامية في أوكرانيا
تكللت جهود الطلبة العرب في بناء وترميم المساجد، وشراء بيوت وتحويلها إلى مساجد في قرى ومدن أوكرانيا، كذلك شراء مقرات لتكون مراكز إسلامية ما تزال تخدم شؤون المسلمين واجتياجاتهم إلى يومنا هذا.
حيث قام "اتحاد الرائد" ببناء وإعادة ترميم وتأهيل قرابة المئة مسجد في مناطق جنوب وشرق أوكرانيا تحديدا في القرم والدونباص ومقاطعة خرسون، وبالتعاون مع مؤسسات وهيئات في عدد من الدول العربية على مدار 25 عاما، وبالتنسيق مع الإدرات الدينية والجمعيات الإسلامية في تلك المناطق.
ومع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تعددت وتوسعت آفاق العمل المؤسسي فجاءت الحاجة لتأسيس اتحاد لمؤسسات العمل الإسلامي في أوكرانيا تحت مسمى "مجلس مسلمي أوكرانيا" فكان تلبية لمتطلبات العمل الإسلامي وتوسعه أفقيا وعموديا، وعلى شتى الأصعدة الخيرية والتعليمية والدينية والعلاقات والأنشطة الخارجية.
لقد كان للجهود المباركة التي قدمها الطلبة المسلمون في أوكرانيا بالتوازي مع جهود بعض المؤسسات التركية الأثر الكبير في توعية المسلمين في أوكرانيا بأهمية الحفاظ وتعلّم شؤون دينهم، والإسهام الكبير في نقل المستوى التعليمي إلى مستوى الريادة، عبر توفير بيئة محفزة للعطاء والإبداع، طاعة لله تعالى وإسهاماً في بناء الهوية الحضارية الإسلامية لمسلمي أوكرانيا .
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022