لماذا خسر الروس ما بعد الحرب الباردة وربحت الصين

نسخة للطباعة2024.05.15
عبد الرحمن الشامي

بينما تبدأ القوات الروسية بالتقدم ضمن المنطقة الرمادية في إقليم خاركيف على امل السيطرة على بلدة فوفشانسك الأوكرانية وتوسيع العمليات في إقليم خاركيف وربما في إقليم سومي في ما بعد, تحت قيادة وزير الدفاع الروسي الجديد, لا تزال السردية الروسية المدافعة عن جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا قائمة على نفس الفكرة, ان الاحتلال الروسي لاوكرانيا هو بغرض ابعاد الناتو عن حدود روسيا! الغريب حقيقة ان الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2014 كانت أصلا هي سبب الرغبة الأوكرانية في الانضمام للناتو بهدف حماية باقي الأراضي الأوكرانية من الاحتلال الروسي, اما حرب روسيا على أوكرانيا عام 2022 هي من دفعت كل من فنلندا والسويد التان هم اقرب بكثير الى مدن روسية مثل سان بطرسبورغ الى الانضمام للناتو

فشل أهداف الحرب 

الأهداف المعلنة للحرب الروسية على أوكرانيا هي جعل المواطن الروسي أكثر امنا من ناحية وابعاد الناتو عن الحدود الروسية من ناحية أخرى, لكن من الواضح ان القيادة الروسية فشلت فشل كبير في كل من هذين الملفين, فأعداد المواطنين الروس الذين فقدوا حياتهم بسبب هذا الحرب على الرغم من خوف المسؤولين الروس من التصريح بتلك الاعداد وصلت لحد دفع بوتن للتعبئة العسكرية شبه العامة, الحدث الذي لم يحصل منذ الحرب العالمية الثانية, ناهيك عن ان الناتو اصبح اقرب بكثير لروسيا نتيجة لحرب بوتن على أوكرانيا

قد يغتر القارئ بالبروباغندا الروسية القائلة ان روسيا مضطرة لهذه الحرب حتى لو انها أدت الى الخيارات العكسية التي تحدثنا عنها والا فما الذي تستطيع ان تفعله وهي تجد نفسها تخسر مناطق نفوذها؟ وعلى الرغم من ان مصطلح "مناطق النفوذ" هو بحد ذاته مصطلح امبريالي ولا يدل على دولة في حالة الدفاع عن النفس بل هو بشكل واضح يدل على الهيمنة والتدخل في دول أخرى لكن حتى لو حاولنا غض النظر عن هذه النقطة ودخلنا الى عالم ما يسمى ب "الريال بوليتيك" او السياسة الواقعية فأن النقطة التي تتجاهلها البروباغاندا الروسية هو ان روسيا بالفعل كان من الممكن ان تحتفظ بمناطق نفوذها بل وبعلاقات طيبة مع جيرانها دون الاضطرار الى حروب طاحنة يخسر فيها الروس وجيرانهم هذا العدد الكبير من البشر

واقع ما بعد الحرب الباردة

ان اردنا ان نتابع النظرة للأمور من مفهوم السياسة الواقعية فأن نقطة البدأ ان يفهم بوتن ان الروس بالفعل قد خسروا  الحرب الباردة, وان العالم اليوم لا يعيش بمنطق الحرب الباردة, ان عالم ما بعد الحرب الباردة يستخدم قوانين مختلفة, في الحقبة الباردة كي تسيطر على بلد وتدخلها ضمن حلفك عليك اما ان تقنع النخب السياسية بنهجك الاقتصادي سواء كان رأسمالي او اشتراكي او تدعم انقلاب عسكري مسلح في بلد ما, عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم السوق المفتوح, يعتمد على فكرة التسويق اقتصادياً للمحور السياسي, بمعنى اخر ان القوى العظمى ان ارادت لدول معينة ان تدور في فلكها عليها ان تقوم بتقديم اغراءات اقتصادية كافية حتى يختار قادة تلك الدول التقارب طوعا مع هذا المحور او ذلك, روسيا حقيقة كانت تفهم هذه النقطة وكانت تقدم بعض الامتيازات الاقتصادية لدول الاتحاد السوفيتي السابق والمعسكر الاشتراكي, المشكلة التي يتجاهلها الاعلام الروسي هي ان المعسكر الغربي اقوى بكثير اقتصاديا, وان روسيا نفسها اختارت التقارب مع المعسكر الغربي, بوتن نفسه من الناحية السياسية لم يكتفي كما وضح هو نفسه في مقابلته مع تاكر كارلسون بطلب الانتساب الى الناتو بل حتى عندما لم يتم النظر بطلبه قام بمساعدة الناتو والتحالف معه, كمثال على ذلك حرب الناتو على أفغانستان, اما اقتصادياً فأن بوتن كان حريص جدا على التقارب الاقتصادي من اوربا وقد قام بدعم فكرة بناء خط غاز نورد ستريم واحد و اثنان
 مشكلة روسيا وتحديدا بوتن انه اما انه لا يفهم قوانين هذه الحقبة او يتظاهر بانه لا يفهم قوانين هذه الحقبة! هناك سبب واضح لانجذاب اغلب دول المعسكر الشرقي باتجاه السوق الأوربي, ببساطة السوق الأوربي هو الأقوى اقتصاديا عالميا جنبا الى جنب مع السوق الأمريكي, بالتأكيد أي دولة ناشئة لو خيرت بين السوق الروسي مثلا والسوق الأوربي سوف تختار السوق الأوربي, اذا وفي ظل الحالة الحالية للاقتصاد الروسي لن يجد بوتن وسيلة لإقناع سياسيي دول مثل أوكرانيا وجورجيا ومولدافيا بل وحتى اليوم أرمينيا البقاء في السوق الأضعف على حساب السوق الأقوى, بالمناسبة هذا حرفيا كان المحرك الأساسية لثورة الميدان عام 2014, ان الشارع الاوكراني رفض قرار يانكوفيتش تحت تهديد الروس بان يتجاهل السوق الأوربي الذي بدأ بالانفتاح على أوكرانيا والاتجاه باتجاه روسيا! ما حصل بديهي ومتوقع, وهذه اهم نقطة يهملها الاعلام الروسي في سرديته عن ما سماه "انقلاب"

نفاق وخسارة

ان الاعلام الروسي بل وحتى الخارجية الروسية ونظام بوتن بشكل عام منافقين لان بوتن الذي يتجاهل نتائج خسارة الاتحاد السوفيتي للحرب الباردة, يتجاهل انه هو نفسه دخل مع الامريكان والغرب في عالم ما بعد الحرب الباردة الرأسمالي وحول الاقتصاد الروسي الى اقتصاد اوليغارخي رأسمالي, بل ان اغلب المليارديرات الروس يضخون الأموال الروسية نفسها في اوربا بدل من الاستثمار في روسيا كما فعل عثمانوف وابراهاموفيتش وهما مقربان جدا من نظام بوتن, الصين على سبيل المقارنة أيضا مهتمة جدا بالسوق الأوربي لكن الاقتصاد الصيني نفسه والسوق الصيني قبلة مهمة لرجال الاعمال حول العالم, مما يجعل القوة السياسية الناعمة للصين اقوى بكثير من نظيرتها الروسية, ليست الصين مضطرة مثلا لإرسال مرتزقة لإفريقيا حتى تستفيد من الثروات الافريقية, الصين تدخل افريقيا اقتصاديا تماما كما يفعل الغرب! الصين تنافس الغرب في لعبته السياسية والاقتصادية بل وتتفوق عليه في كثير من الأحيان, بالمقابل وبينما تزيد كل يوم رقعة نفوذ الصين السياسية في العالم لتنافس الولايات المتحدة حتى على دول مثل المملكة العربية السعودية فان روسيا حرفيا ومنذ وصول بوتن للسلطة خسرت بولندا ودول بحر البلطيق ثم جورجيا وأوكرانيا ومولدوفا وها هي اليوم تخسر أرمينيا والمرشح بعد ذلك ان ينفض عن روسيا في تقارب مستمر مع الصين دولة كازاخستان, اذا على الرقعة السياسية بينما التعنت السياسي الروسي وعدم الاعتراف بالخسارة كل يوم يجعل مناطق النفوذ الروسية اصغر, على العكس تماما فهم قوانين اللعبة من الطرف الصيني يجعل مساحات النفوذ الصينية تزداد مع كل يوم!
ان ما يجعل بوتن وروسيا خاسر سيء "لفظ يطلق على من ينكر الخسارة ويعيش ضمن واقع مبني على الانكار" اكثر من ذلك هو حقيقة ان الاعلام الروسي محق! ان تلك الدول التي يتباكى على خسارتها بوتن بالفعل مرتبطة بروسيا بعوامل اللغة والدين واحيانا التاريخ المشترك بحلوه ومره, بل حتى بعوائل مشتركة أحيانا! لكن ما لا يريد الروس ان يفهمه ان هذا كان يفترض ان يعطيهم الأفضلية في حال كانوا يملكون بديل اقتصادي حقيقي للغرب, مما يعني ان هذه نقطة تحسب ضد روسيا وليس لها لانها لم تستطع الاستفادة من هذا التقارب وترسيخه لذلك فان الواقع يقول ان حتى تلك الدول التي فضلت الغرب أعطت الروس انفسهم الكثير من الفرص لكن الاقتصاد الروسي اضعف من ان ينافس الاتحاد الأوربي وبوتن بدل من يستفيد من الطفرة في ارتفاع أسعار الغاز والنفط لبناء عملاق حقيقي مخيف اقتصادياَ غرق مع أصدقائه الاوليغارخي في بحر من الفساد جعل من الاقتصاد الروسي يعتمد بشكل أساسي على تصدير المواد الخام والطاقة, ثم الأسلحة, اما السوق الروسي ولو انه جذاب نسبياَ لو قارناه بالسوق المحلي لاي من تلك الدول لكنه لا يقارن بالسوق الأوربي, بمعنى اخر روسيا خسرت فرصة ذهبية في حال لو كان نظامها ديناميكي مثل النظام الصيني, لكن التعنت والفساد لم يفرط فقط بفرصة الروس بالحفاظ على مناطق نفوذهم, لا بل فوت فرصة ذهبية في حال لو كان اكثر انفتاحا واستمر بعلاقات قوية مع الدول التي دخلت حتى في الاتحاد الأوربي لتكون أنظمة تلك الدول سلاحا ناعماً له في اوربا واستمرار لكلمته هناك بدل ان تصبح سيف مسلط على رقبته! تعامل الروس بفوقية مع تلك الدول واجبار الشعوب والحكومات على ان تتصرف كما يحلو لبوتن كان السبب الرئيسي في الثورات الملونة في اغلب تلك الدول, كثير من تلك الدول رفع شبابها شعارات واضحة ترفض تدخل بوتن الفج في سياسة تلك الدول وتطالب باستقلال حقيقي عن روسيا, الغريب مثلا ان من تلك الدول كازاخستان التي قام بها حراك قوي ضد الرئيس السابق نزاربايف والتبعية لروسيا وعلى الرغم من ان البديل أصبحت الصين, وعلى الرغم ان الصين تملك اجندة طموحة لا تقل عن اجندة الروس, لكن لا يجد الشعب الكازاخي نفسه مستفزا من النفوذ الصيني لان الصين لا تتعامل بفظاظة الروس, بل تتعامل باحترام مع كازاخستان دولة وشعباً حتى لو كان هذا الاحترام هو واجهة لإحكام السيطرة الاقتصادية على البلد, لكن حقيقة هذه هي الطريقة الأفضل للسيطرة السياسية في عالم ما بعد الحرب الباردة

الخلاصة

فوت الروس على انفسهم فرص ذهبية كثيرة, وعلى الرغم من تباكي السياسيين الروس على خساراتهم المستمرة في المجال الدبلوماسي لمناطق النفوذ, بدل من أن يلوموا انفسهم ويغيروا سياساتهم ويتعلموا الطرق الانجح كما فعلت الصين على سبيل المثال لا الحصر, استمروا في مجال التعنت والفساد والبلطجة العسكرية حتى أصبحت روسيا نفسها اليوم وبحد كبير ضمن دائرة النفوذ الصيني, تاجر مساحات كبيرة من أراضيها للصين, تبيع ثرواتها الباطنية للصين بابخس الأسعار, لتصبح الصين الرابح الأكبر من سياسة روسيا بعدم التأقلم الناجح مع عالمنا اليوم.
كان من الممكن لبوتن ان يبني الجامعات والمصانع ويستفيد من الكم الهائل من العقول التي تركها الاتحاد السوفيتي, كان من الممكن ان يستفيد من الثروات ويجعل روسيا جنة للاستثمار بدل ان يدفع حتى  أصدقائه من الاوليغارخي ليصبحوا من اكبر المستثمرين في الأسواق الاوربية, لكنه اختار ان يكون الرجل المريض الذي يعيش على انقاض الماضي يتباكى بشكل مستمر لخسائره المستمرة في المجال الدبلوماسي, يهدد ويتوعد بالسلاح النووي بينما جنوده غارقين في اوحال الدونباس لسنوات بدل ان يقيم كيان اقتصادي صناعي يهز العالم ان شاء كجاره الصيني

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022