هل ما حصل في أوكرانيا عام 2014 انقلاب على السلطة المنتخبة؟

نسخة للطباعة2022.11.13
عبد الرحمن الشامي

تعتمد الحكومة الروسية في غزوها لأوكرانيا على عدة أحداث يتم تفسيرها من وجهة النظر الروسية
لنفهم أكثر ما يحصل اليوم في الحرب الطاحنة بين البلدين من الضروري ان نتوقف مع عدة مواقف من التاريخ القريب لفهم كيف وصلنا للحال الذي عليه نحن اليوم، في محطة اليوم سنتوقف مع الرواية الروسية على أن السبب الرئيسي لكل الأحداث هو "الانقلاب العنيف على السلطة المنتخبة الشرعية عام 2014".

في الحقيقة يكرر الاعلام الروسي هذه الرواية معتمداً ان الكثيرين لا يعرفون تفاصيل الأحداث وقتها. تبدأ الأحداث ربما من فترة حكم الرئيس كوتشما والتي انتهت بالثورة البرتقالية او الثورة الاولى عام 2004 وقد شهدت فترة حكم كوتشما المقرب اكثر للمعسكر الشرقي صعود شخصيتين كلاهما اصبح رئيس وزراء في فترة حكم الرئيس كوتشما اولهما هو فيكتور يوشنكو وهو شخصية خرجت من القطاع الاقتصادي البنكي ليصبح رئيس وزراء ومن بعدها مرشح للرئاسة وكذلك فيكتور يانكوفيتش المحسوب نسبيا على القطاع الصناعي في أوكرانيا والذي ايضا اصبح رئيس وزراء ثم مرشح للرئاسة الاوكرانية.

والفارق الاساسي بين الاول والثاني هو ان يوشنكو محسوب على التيار الذي يرى ان مستقبل اوكرانيا كدولة أوربية اما يانكوفيتش فهو مرتبط اكثر بكثير بالمعسكر الروسي الشرقي لذلك فقد كانت الانتخابات الاوكرانية عام 2004 انتخابات مهمة جدا في تاريخ أوكرانيا بين المرشحين وقد شهدت تقارب شديد جدا في الاصوات في الجولى الاولى والثانية من الانتخابات وقد اتهم مؤيدوا يوشنكو ان بان الانتخابات تم تزويرها لمصلحة يانكوفيتش فخرجوا للتظاهر في الساحات مطالبين باعادة الجولة الثانية وبالفعل بعد اعادة الجولة الثانية انتصر يوشنكو بفارق بسيط جداً عن يانكوفيتش.

من هنا يمكن الملاحظة أن الدولة الأوكرانية التي كانت تعيش مولد الديمقراطية فيها تتاثر بعدة تيارات اقواها تيارين الاول يرى اوكرانيا مستقبلا جزء لا يتجزء من اوربا والثاني لا يزال متعلق بروسيا لذلك نجد ان روسيا لم تخجل في الاستثمار ودعم التيار المقرب منها خاصة يانكوفيتش شخصيا وحزبه حزب الاقاليم لتعود الانتخابات عام 2009م ويتم انتخاب فيكتور يانكوفيتش هذه المرة كرئيساً لاوكرانيا
شهدت فترة حكم الرئيس يانكوفيتش مشاكل كثيرة على الصعيد الداخلي فقد انتشر الفساد والمحسوبيات خاصة وان كان يعتبر مرشح الاوليغارخ الاوكراني الاغنى رينات اخميتوف الذي ارتبط اسمه بالمافيا في احداث التسعينات في اوكرانيا وقد تكررت احداث فساد وفوضى تورطت فيها الشرطة وادت الى سلسلة احتجاجات منفصلة.

على الصعيد الخارجي بدأ يانكوفيتش عهده بقرارين صادمين الاول تمديد تأجير جزء من ارض شبه جزيرة القرم لروسيا وقاعدتها العسكرية لمدة 25 سنة مقابل تخفيضات قليلة نسبيا على سعر الغازولمدة خمس سنين فقط! القرار الاخر كان اعتبار اللغة الروسية اللغة الرسمية الثانية في أوكرانيا بعد اللغة الأوكرانية! مما اثار غضب تيار الغرب والوسط الاوكرانيين الذان كانا يريان ان اوكرانيا يجب ان تمشي باتجاه الغرب او على الاقل باتجاه حماية الهوية الاوكرانية وليس العودة لارث الحقبة السوفيتية! خاصة وان كثير من الاوكران يتذكر الحقبة السوفيتية بشكل سيء جدا لما جلبته على الاوكران من تنكيل بالمواطنين ومحاربة الحريات وطمس الهوية الاوكرانية ومحاولات للابادة الجماعية كما حصل في احداث التجويع على سبيل المثال.

لأمتصاص غضب الشارع الاوكراني استمر يانكوفيتش في المفاوضات مع الاتحاد الأوربي لدمج أوكرانيا ولو بشكل بطيء جدا مع الدول الاوربية ولو اقتصاديا لكن الدول الاوربية كانت تملك شروط قسم منها كان يتعلق في مكافحة الفساد, لكن لم يكن يظهر ان يانكوفيتش ولا حكومته متمثلة برئيس وزرائه أزاروف او حتى حزبه الحاكم حزب الأقاليم كانوا مهتمين بمحاربة الفساد لذلك عندما طلب يانكوفيتش الغارق في الديون قرضا جديدا لم يبدي الاتحاد الأوربي تحمسا وذكر بشروطه في مكافحة الفساد فقامت روسيا بعرض مساعدات مالية مغرية ليانوكوفيتش شريطة ان تتغير بوصلة السياسة الأوكرانية باتجاه روسيا ويتم تجاهل الشروط الاوربية بشكل كامل.

قبل المتابعة لابد من التركيز على الجانب الاقتصادي: فقد رأى قسم كبير من الأوكران ان مستقبل أوكرانيا كدولة اوربية خاصة وأن بولندا تشبه أوكرانيا لحد كبير وانها ودول البلطيق تحسنت أوضاعهم الاقتصادية بشكل كبير عندما تركوا الإرث السوفيتي واتجهوا باتجاه اوربا بالمقابل لا يبدو الوضع في الدول التي بقيت تسير في اتجاه روسيا مثل مولدوفا (حينها) وبيلاروسيا بانه يحمل أي خير للمواطنين.

لذلك عندما بدأ يانكوفيتش في تهديد الاوربيين بانه سيتجه لروسيا اثارت هذه التهديدات غضباً شديدا في الشارع الاوكراني خاصة في مدن الغرب والوسط الاوكراني وبدأت الدعوات لمظاهرات ما سمي وقتها بالميدان الأوربي في إشارة الى اعتصامات في مدن كبرى في الساحات العامة وعلى رأسها الساحة الأهم في كييف "ميدان الاستقلال" في نهاية عام 2013م.

قبل المتابعة في سرد الاحداث من المهم جدا التذكير بأن التظاهر في أوكرانيا يعتبر امر قانوني وطبيعي وانه لم يحكم أوكرانيا رئيس لم تخرج في عصره تظاهرات أياً كان او أي يكن توجهه! من عادة الاوكران الخروج في مظاهرات في حال حصول امر هم غير موافقين عليه لذلك محاولة الاعلام الروسي تصوير ان التظاهر في أوكرانيا امر مخيف من ناحية وامر غير قانوني هو كذب محض! القانون الاوكراني يحمي حقوق المواطن الاوكراني في التظاهر.

مع اشتداد التظاهرات بدأ الضغط على يانكوفيتش وبدأ بالتراجع عن بعض مواقفه خاصة حزمة قوانين جديدة كان يجهزها كانت تهدد الحرية الشخصية للمواطنين الاوكران وبدأ انه منفتح اكثر على المفاوضات لكن سلسلة من الاحداث الغريبة بدأت بالحصول في ساحة ميدان الاستقلال حيث ظهر مسلحين غير معروفين بدؤوا باستهداف المتظاهرين من جهة والشرطة من جهة أخرى مما اثار شعلة التظاهر مرة أخرى ردا على وفاة اكثر من مئة متظاهر
اتهمت الحكومة الأوكرانية المتظاهرين بانهم هم من قتلوا المتظاهرين الاخرين جنبا الى جنب لاستهدافهم بعض من عناصر الشرطة وأصبحت التظاهرات تحمل طابعا اكثر حدة لكن المهم جدا هو ان الرئيس الاوكراني في كل تلك الاحداث كان في سكنه المؤمن والذي يملك حماية كافية لكن الرئيس الاوكراني يانكوفيتش لم يحاول ان يهدأ الشارع ولا حاول تغيير الاحداث في البلد بل انه قرر ان يلم كل ما على ثمنه ويهرب خارج البلاد الى روسيا
لم يتم خلع الرئيس بالقوة كما تدعي روسيا وابواقها الإعلاميين! لقد هرب يانكوفيتش بمحض ارادته! وللمقارنة لابد للتذكير بان الحرب الروسية الحالية على اوكرانيا بدأت باستهداف عسكري للعاصمة الاوكرانية كييف ومحاولة استهداف وقتل الرئيس الحالي المنتخب فلاديمير زيلينسكي لكنه لم يهرب حتى تحت القصف علما ان دول عدة أعلنت عن استعدادها لحمايته واسرته! اكثر من ذلك فقد دعى بوتن نفسه الاوكران لاستهداف زيلنسكي والانقلاب عليه لكن هذا لم يحصل التف الاوكران حول رئيسهم المنتخب في حماية بلدهم من العدوان الروسي.

في المحصلة لابد من التذكير بان التظاهر في أوكرانيا ظاهرة عادية وان اعتراه أحيانا بعض العنف في احداث منعزلة فأن هذا الامر لا يعتبر غريبا على بلد ثقافته التظاهر والاعتصامات وانه لا يوجد رئيس لم يحصل في عهده تظاهرات بما فيهم الرئيس الحالي زيلنيسكي! لم يهرب من الحكم الا يانكوفيتش! لم يتم استهداف يانكوفيتش ولم يكن هناك أي حالة تهديد لحياته! ان اكثر ما تعرض له يانكوفيتش كان ان رمي ببيضة في الشارع وهو امر عادي جدا! ما تسميه روسيا "انقلاب" هو تزوير واضح للوقائع فالانقلابات العسكرية هي تلك التي رعاها الاتحاد السوفيتي في دول عدة او ما حاولت روسيا فعله في ليبيا اما ما حصل في أوكرانيا فهي ممارسات شرعية يكفلها الدستور الاوكراني!

بالمقابل ردا على هروب يانكوفيتش الى روسيا قامت روسيا بإرسال عدد من المخربين على رأسهم المتقاعد العسكري الشهير ايهور غيركين الذين تم تسليحهم من قبل روسيا لمحاولة تحريك الاحداث في مدينة دونتسك مسقط رأس الرئيس الهارب يانكوفيتش والذي تم خلعه بعد هروبه من البلد.
يحظى يانكوفيتش بشعبية كبيرة في مدينة دونتسك ولا تحظى التظاهرات ضده بشعبية في تلك المدينة لكن قسم كبير من شباب المدينة كان يرى دونتسك جزء لا يتجزأ من أوكرانيا وان مستقبلها أيضا في اوربا خاصة وان دونتسك استضافت البطولة الاوربية عام 2012 لذلك لم تحظى الدعاية الروسية للتظاهر ضد كييف بالزخم الكافي مما اضطر الروس لإرسال متظاهرين من روسيا ومن ثم عناصر عسكرية لاحتلال مبنى إدارة المدينة! على عكس التظاهر الذي هو امر قانوني في القانون الاوكراني فان ممارسات العناصر الروسية التخريبية واحتلال المباني الرئيسية والتهديد بالانفصال هي أمور غير قانونية مما اضطر الحكومة المؤقتة لتهديد تلك العناصر ان لم تخلي تلك المباني بانها سوف تواجهها كعناصر مخربة! تحول الدونباس بسرعة الى بؤرة تسليح من روسيا وشهدت الأسابيع الأولى ضخ كبير للأسلحة بما فيها مضادات طيران بل وراجمات صواريخ في استعداد لتنفيذ المخطط الروسي في محاولة تقسيم أوكرانيا.

حاولت روسيا نفس المخطط في مدن شرقية أخرى في خاركيف واوديسا ودنيبر لكن نشطاء محليين بدعم من الحكومة تصدوا لتلك المحاولات وفشلت لتبقى الدونباس المنطقة الوحيدة (باستثناء القرم والتي تم احتلالها مباشرة بسبب وجود قاعدة روسية عسكرية فيها)
على اثر هجوم العناصر الروسية على مناطق في إقليم الدونباس شهد الإقليم عدد كبير من نزوح اهاليه بعضهم نزح الى الأراضي الأوكرانية والأخر نزح للأراضي الروسية لتعلن الحكومة الأوكرانية على اثر ذلك بدأ عمليات مكافحة الإرهاب في الإقليم والتي استمرت لحين وصول الرئيس الحالي زيلنسكي في السلطة والذي تعهد للشعب ان يعمل على التهدئة وبالفعل حصلت تهدئة عسكرية كبيرة جدا في عصره قبل التصعيد الروسي قبيل الحرب الحالية.

ختاما من الضروري الانتباه بان اسطورة "انقلاب 2014" لم تكن فقط لتبرير جرائم الحرب الروسية في حق الشعب الأوكراني لكنها تحمل أيضا رسالة للداخل الروسي! فأن أحداث الميدان في بدايتها في نهاية عام 2013 كانت تحصل بالتوازي مع مظاهرات في مدن روسية كبرى ضد بوتن لذلك فأن نظام بوتن كان يريد بكل السبل والطرق شيطنة التظاهر وجعل من أوكرانيا عبرة لشعبه لذلك وطوال ال 8 سنين الماضية فان الاعلام الروسي كرر بدون انقطاع ان كل ما يحصل في أوكرانيا من دم سببه تظاهرات "الميدان" ليربط في ذهن شعبه ان ممارسة حقهم الديمقراطي في التظاهر لا يؤدي الى الدمار والدم.  
 

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

العلامات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022