يعد أحد أصعب التحديات في الجغرافيا السياسية هو معرفة كيفية إجراء انسحاب ناجح من مكان ما، وهو الأمر الذي شهدنا في الصيف الماضي في أفغانستان، عندما اتخذت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الخيار الاستراتيجي الصحيح والذي تمثل في خفض الخسائر في كابل بدلاً من التصعيد، للحفاظ على الوضع الراهن، الذي أرى أنه كان يمثل إفلاساً أخلاقياً.
ولكن، بعد ذلك، ترنحت الإدارة من خلال انسحاب كارثي أثر سلبياً على رئاسة بايدن للبلاد، وأظهر عدم الكفاءة الأميركية أمام العالم الذي كان يتابع كل ما يحدث في ذلك الوقت.
والآن، نحن نواجه المشكلة نفسها مع أوكرانيا، إذ قامت الولايات المتحدة في أوج عصرها الذهبي كقوة عظمى بسلسلة من التحركات، لتوسيع محيط نفوذها في عمق المناطق الخارجية لروسيا.
ويبدو أن بعض هذه التحركات ظلت مستمرة، فعلى الرغم من أن توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل دولاً من حلف وارسو السابق كان خطراً بحد ذاته، فإن هذه الالتزامات تبدو آمنة في الوقت الحالي.
ولكن محاولة إخراج أوكرانيا من فلك روسيا، مع ترك الباب مفتوحاً جزئياً أمام الأوكرانيين الذين يفضلون التحالفات التي تركز على الغرب، كانت تمثل التزاماً مفرطاً في الحماقة حتى عندما كانت القوة الأميركية في أوجها.
والمشكلة الحالية ليست متعلقة بما يستحقه الأوكرانيون، ولكن الواقع هو أن روسيا هي المعتدية المستبدة في الأزمة الحالية، فصحيح أن أوكرانيا لديها ديمقراطية معيبة، ولكنَّ لديها نظاماً أكثر جودة من الأوليغاركية (حكم الأقلية - وهو شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع، تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية) الذي يقوده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وعندما قدمنا ضمانات أمنية لأوكرانيا في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، وفتحنا الباب لها لعضوية الناتو في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، ودعمنا احتجاجاتها في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، كنا في كل حالة من هذه الحالات نتصرف بنوايا أفضل من موسكو التي كانت تدبر لها المكائد.
ولكن في الجغرافيا السياسية، لا تسير النوايا الحسنة دائماً في نفس اتجاه الحقائق الخاصة بالسلطة، فمهما كانت رغباتها أو رغباتنا، فإن الحكومة في أوكرانيا لم تكن ببساطة في وضع يسمح لها بالانضمام إلى الغرب بشكل كامل، فهي ضعيفة اقتصادياً للغاية ومنقسمة داخلياً للغاية.
كما أن تصرفات إدارتي بوش وأوباما، وبعض تصرفات إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (على الرغم من العلاقات الشخصية التي كانت تجمعه مع بوتين)، قد تركتنا مرهقين، ولذا فإن تبنينا للقوة الناعمة في كييف لم يكن مجهزاً للتعامل مع تحركات القوة الصارمة من قبل موسكو.
وبالنظر إلى هذه الحقائق، والحاجة الملحة لتركيز القوة الأميركية في شرق آسيا لمواجهة الصين، فإنه من الواضح بما فيه الكفاية أين سينتهي الانسحاب من أوكرانيا، إذ إنه من المتوقع أن ينتهي باستمرار توسع الناتو بشكل دائم، وبتعرض أوكرانيا لضغط روسي لا مفر منه، ولكن دون غزوها أو ضمها، وبتحمل حلفائنا في الناتو المزيد من عبء الحفاظ على الأمن في أوروبا الشرقية.
ولكن، كما الحال في أفغانستان، فإن التنفيذ الفعلي يكون أصعب من الحديث النظري، فالتوصل إلى تفاهم مستقر مع بوتين يمثل تحدياً، لأنه من الواضح أنه استثمر في أن يكون عاملاً للاضطراب الدائم، وأن يغتنم أي فرصة لإذلال الغرب.
لذا فإن تخليص أنفسنا من ورطاتنا الأوكرانية سيؤدي حتماً لبث الشكوك حول التزاماتنا الأكثر أهمية في أماكن أخرى، وستزداد هذه الشكوك كلما زادت معاناة كييف من انسحابنا، فقد ظل تسليم المزيد من المسؤولية الأمنية للأوروبيين هدفاً لم يتم تحقيقه لكل رئيس أميركي حديث، وذلك في ظل وجود المشكلة الخاصة التي تتمثل في أن القوة الأوروبية الرئيسية، ألمانيا، غالباً ما تتصرف باعتبارها حليفاً فعلياً للروس.
وبالنظر إلى هذه الصعوبات، فإن المسار المتذبذب لإدارة بايدن في الأزمة الأوكرانية الروسية يبدو مفهوماً، وذلك حتى لو كان المؤتمر الصحافي الأخير للرئيس يعد صريحاً للغاية بالنظر لكثير من المعايير، وذلك لأن الولايات المتحدة لا تستطيع فعل أي شيء إذا غزت روسيا أوكرانيا.
كما أنه سيكون من الجنون أن تنضم إلى الحرب إلى جانب أوكرانيا، ولذا، فإن سعي البيت الأبيض للرد بشكل متذبذب، وإيجاد بعض التوازن بين فرض العقوبات على موسكو وإرسال شحنات الأسلحة إلى كييف، يبدو صحيحاً لسبب وجيه؛ وهو أنه ببساطة لا يوجد ردٌّ مثاليٌّ على هذه الأزمة، ولكن الحل يتمثل في القدرة على التوصل إلى الخيارات الأقل سوءاً.
أرى أننا ما زلنا نولي كثيراً من الأهمية لفكرة أن حلف الناتو هو الوحيد الذي يمكنه أن يحدد أعضاءه، وأن استبعاد العضوية الأوكرانية يعد تنازلاً مستحيلاً بطريقة أو بأخرى، ولكن هذا الغرور يمثل مفارقة تاريخية، كما أنه يشبه ذلك الشعور الذي كان موجوداً في فترة ما بعد الحرب الباردة عندما بدا لفترة وجيزة أنه من الممكن.
وكما قال المؤرخ آدم توز: «يتم رسم الحدود الحاسمة للعالم من قبل القوى الغربية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك وفقاً لشروطهم الخاصة وبما يتناسب مع قوتهم وتفضيلاتهم».
الحقيقة هي أن هذه ليست الطريقة التي يسير بها العالم الآن، وهو أمر مريح للغاية ألا يسير العالم بهذه الطريقة، وبصفتي مواطناً أميركياً، وليس مجرد مراقب للسياسة الدولية، فإنني آمل في رؤية قادتنا يعترفون بذلك، بدلاً من التمسك بفكرة قد تجبرنا في يوم من الأيام، لتحقيق التزامنا بمعاهداتنا، إلى المخاطرة بحرب نووية من أجل دونباس.
إذا لم نتمكن من التخلي عن الفكرة تماماً، فإن فكرة التخلي عنها لفترة معينة مثل السنوات الخمس والعشرين التي اقترحها توماس غراهام وراغان مينون في مقال افتتاحي، نُشر مؤخراً في مجلة «بوليتيكو» الأميركية تبدو صفقة معقولة جداً.
يمكن لبعض الأشياء أن تكون منطقية ولكنها تظل مؤلمة، وفي حالة أوكرانيا، فإنَّ الأمر سيكون مؤلماً، لأنه سيمثل اعترافاً بالضعف الغربي، كما سيكون مؤلماً لآمال وطموحات الأوكرانيين.
لكن قبول بعض الألم من أجل وضع أكثر استدامة هو ببساطة ما يحدث عندما تكون قد ظللت تتخذ قرارات سيئة على مدار جيل كامل، ولكنك تحاول إيجاد طريقة لائقة للتراجع الضروري عنها.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
صحيفة "نيويورك تايمز" - الشرق الأوسط
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022