منذ ثلاثين سنة، انهار الاتحاد السوفياتي بطريقة دموية عموماً، لكن الأحداث أثبتت في السنوات الأخيرة أن الصراعات الدموية تبقى مؤقتة، إذ تُعتبر حرب روسيا ضد أوكرانيا خير مثال على ذلك، وفي المقابل، أدى الصراع الروسي القصير في جورجيا في عام 2008 إلى سقوط مئات القتلى.
اليوم، تشكّل الاضطرابات التي تشهدها كازاخستان دليلاً إضافياً على هذه الفكرة للأسف، فبدءاً من الخميس الماضي، سقط عشرات القتلى تزامناً مع احتدام الاشتباكات بين المحتجين والشرطة.
من الواضح أن الأزمة القائمة في هذه الجمهورية السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى تدمج بين مسائل جيوسياسية عدة في أنحاء أوراسيا، بدءاً من جهود موسكو لإخضاع الغرب وأوكرانيا وصولاً إلى علاقة روسيا الحساسة مع الصين، وستكون تداعيات هذه الأحداث هائلة.
طلب رئيس كازاخستان المحاصر، قاسم توكاييف، من "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" (تحالف عسكري تقوده روسيا) تقديم المساعدة لإعادة إرساء النظام، ثم أعلن رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان، رئيس المنظمة بالتناوب، إرسال قوات عسكرية إلى كازاخستان.
إنها خطوة بارزة لسببَين: أولاً، لا تقتصر طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تجديد نفوذ روسيا في المساحات السوفياتية السابقة في أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، لذا تشكّل دعوة توكاييف فرصة لتحقيق الهدف الروسي الأساسي في أغنى بلد من آسيا الوسطى.
ثانياً، كان توكاييف يملك خياراً آخر مثل اللجوء إلى "منظمة شنغهاي للتعاون" التي تقودها الصين لكنها تشمل روسيا أيضاً، فرغم توسّع التعاون بين موسكو وبكين لمعارضة السياسات الأميركية عالمياً، يتنافس البلدان بكل وضوح في آسيا الوسطى.
يسهل أن نفترض أن قرار "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" صدر فعلياً عن بوتين، ويعني ذلك أنه اعتبر تقوية مكانة موسكو في كازاخستان أهم من استرضاء الصين، فقد لا تعطي هذه الخطوة أثراً فورياً وواضحاً على العلاقات الروسية الصينية، لكنها توجّه رسالة إلى بكين مفادها أن موافقة موسكو على مكانتها كشريكة صغرى في علاقة البلدَين لها حدود، وهذا العامل سيؤثر في مسار العلاقة الثنائية مع مرور الوقت.
تطرح الاضطرابات التي تشهدها كازاخستان السؤال التالي على بوتين: هل يجب أن يتابع حملة الترهيب التي يقودها في جناحه الغربي، أم من الأفضل أن يعالج المخاطر المطروحة جنوباً؟ أم أنه يستطيع تحقيق الهدفَين معاً؟ في الوقت الراهن، يحاول بوتين الاستفادة على جميع المستويات.
قد تنجح "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" في إعادة إرساء النظام وتعويم حكومة توكاييف من دون تقليص القوات الروسية على الحدود الأوكرانية.
لكن إذا فشل الانتشار العسكري الأولي الذي تقوده "منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، فقد يواجه بوتين معضلة حقيقية، فقد أدى الحشد العسكري الروسي المسبق في أوكرانيا إلى نشوء مأزق واضح، ومن المتوقع أن تتدهور مكانة موسكو في آسيا الوسطى إذا أنتجت أي ثورة شعبية في كازاخستان حكومة إصلاحية، أو إذا طلب توكاييف المساعدة من الصين و"منظمة شنغهاي للتعاون" للبقاء في السلطة.
لا مفر من التساؤل حينها: هل سيسحب بوتين في هذه الحالة قواته العسكرية من الحدود الأوكرانية للتعامل مع الاضطرابات السائدة في كازاخستان وتقوية مكانة روسيا في آسيا الوسطى؟.
لا تحمل هذه المقاربة المجازفات بقدر إطلاق هجوم عسكري تقليدي واسع في أوكرانيا، إذ يستطيع بوتين أن يفسّر بسهولة تراجعه المؤقت في الغرب لحصد مكافأة جديدة في الجنوب، لكنّ هذه الخطوة لن تمنع حشد القوات الروسية للمرة الثالثة على الحدود الأوكرانية.
في النهاية، تبقى المخاطر التي يواجهها بوتين في كازاخستان وأوكرانيا كبيرة، وقد يصعب على هذا الحاكم الانتهازي أن يتعامل مع اضطرابات البلدَين في الوقت نفسه.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
موقع "المجلس الأطلسي" (ترجمة موقع "الجريدة")
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022