بعد فوز بايدن، وصل عدد المقالات التي يدعي مؤلفوها توقعهم لسياساته (بايدن) إلى رقم كبير. يتجاوز عدد "أصدقاء بايدن" الذين أعلنوا عن أنفسهم عدد أطفال الملازم شميدت في القصة الشهيرة. لقد وجد كل واحد تقريبا صورة له مع بايدن، وكان نشره لها على الشبكات الاجتماعية أشبه بالواجب تقريبا.
على خلفية ضجيج المعلومات المسلية هذا، يبقى السؤال عما ستؤول إليه السياسة الأمريكية أمر بالغ الأهمية بالنسبة للكثيرين، بما فيهم نحن. لذا، يجدر التحدث على الأقل عما هو أكثر أو أقل وضوحا اليوم.
المجتمع الأمريكي مستقطب ومشتت ولدى مكوناته المختلفة تصور مختلف حول المستقبل. إن الأزمة الوجودية للتمثيل الديمقراطي تتمثل في أن الأمريكيين ما عادوا يتخذون القرارات العقلانية ويختارون الأفضل من بين النخب السياسية، هذه المشكلة الأكثر وضوحا، رغم أنها ليست المشكلة الوحيدة.
كما وأن أزمة محاكاة التضامن أدت إلى تطور حركة Black Lives Matter، التي جعلت من العقلية الليبرالية وطريقة حياة المدن تتمايز بشكل أكبر عن باقي أمريكا.
ساهمت رئاسة ترامب إلى حد كبير في جعل هذه التوجهات "تخرج عن مسارها". لست أدري ما إذا كان ترامب سيبقى في السياسة، لكن من المرجح أن لا تختفي الترامبية كشكل محدد من أشكال الشعبوية.
سيتعين على بايدن أن يفعل الكثير للتغلب على الانقسام إلى "نحن و هم"، وفي الواقع، لقد بدأ يحاول فعل ذلك. لحسن الحظ (أو ربما للأسف)، لا توجد في الولايات المتحدة ثقافة التسامح الأوروبية، لذا سيكون من الصعب جدا بناء "المجتمع" وسوف يحتاج ذلك إلى الكثير من الجهد المعنوي والوقت.
كل هذا لا يعني أن الاهتمام بالسياسة الخارجية سيكون أقل، إذ لا يمكن للولايات المتحدة أن تسمح لنفسها بذلك أبدا، ولكن سوف يزداد دور المؤسسات الأمريكية وفريق بايدن في تحديدها ليس مرات، بل عشرات المرات، خاصة على المستوى التكتيكي والتنفيذي.
المنهجية بدلا من نهج المعاملات و"إدارة الأعمال" مهمة للغاية في الظروف التي يوجد فيها النظام العالمي الحالي بشكله القصوري إلى حد ما، حيث ستنجرف مؤسسات "الواقع الحقيقي" بشكل متزايد في اتجاه النهج الافتراضي.
بنتيجة هذه الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة حددت الطريقة المبنية على النظام أو المفاهيمية المشروطة، التي ستحدد إعادة تجسيد أخرى وتدريجية للنظام العالمي.
لا يمكن للعالم أن يقوم على الترتيبات الشخصية لرؤساء الدول، وفق ما يرى دونالد ترامب، لأن ذلك أمر معقد للغاية، ورؤساء الدول في عصر التمثيل الديمقراطي، ليسوا دائما من أصحاب الرؤى والاستراتيجيات، بل هم في الغالب من أصحاب القيم.
هذا هو السبب الذي يقف وراء أن فريق بايدن لا يعمل فقط مع السياسيين الموجودين في السلطة أو في المعارضة أو في المؤسسات، بل ومع المجتمعات والشركات، أي أنهم يدمجون التنظيم الاستراتيجي مع التخطيط وتحديد الأولويات مع المنهجيات التكتيكية.
يمتلك فريق بايدن العديد من الشخصيات المتميزة القادرة على أداء المهام مهما كانت درجة تعقيدها. لكن من الواضح أن مهمة إعادة ضبط النظام العالمي ليست بالبسيطة، لذا سيحاول رئيس الولايات المتحدة المستقبلي جذب من هم أفضل بما فيهم الجمهوريين، الذين سوف يوافقون على ذلك، وهو أمر مهم أيضا من أجل التغلب على التقاطب غير المسبوق الذي ظهر في المجتمع.
ستكون السياسة الخارجية للإدارة الجديدة أقل تركيزا على "السياسة الخارجية" وأكثر تركيزا على العالمية. هذا يعني أن العلاقات مع الدول ستلعب دورا مهما ولكنه سوف يتضاءل تدريجيا أمام التهديدات والتحديات العالمية. سيصبح التفاعل مع المجتمع المدني والشركات والشبكات العالمية والوطنية على المدى الطويل أكثر أهمية من الإطار الرسمي للعلاقات بين الدول، ومن المرجح أن تتسارع هذه العملية في ظل إدارة بايدن.
أنا مهتم جدا بكيفية تأثير الجناح "التقدمي" للحزب الديمقراطي الأمريكي على السياسة الخارجية. من الواضح أن قضايا تغير المناخ وحقوق الإنسان وحماية الأقليات والعديد من القضايا الأخرى ستنعكس في البعد الخارجي.
مثلا، ستعود الولايات المتحدة لتنضم إلى اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، والتي من المحتمل أن تحدث في الأيام الأولى من ولاية بايدن، ولن تكون تلك إلا الخطوة الأولى فقط.
تنفس الكثيرون في أوروبا الصعداء فعليا بعد فوز بايدن، آملين في الحصول على نوعية مختلفة من الشراكة العابرة للأطلسي، التي خضعت في عهد ترامب لـ"تأثير بينوكيو" المعروف: المريض على قيد الحياة أم أنه ميت أكثر. لقد استمر التعاون على المستوى المؤسسي، ولكن على المستوى السياسي، لم يجد الاتحاد الأوروبي أرضية مشتركة مع ترامب، رغم أن بعض العواصم ستشتاق إليه.
ينمو في الاتحاد الأوروبي إدراك متزايد، وإن كان بطيئا للغاية، حول أن أمنه لا يمكن أن يعتمد على بضعة آلاف الأصوات من ولاية بنسلفانيا أو جورجيا. سنكون في السنوات القادمة شهودا على محاولات إيجاد تنسيق جديد للتفاعل العابر للأطلسي، الذي سيكون أقل اعتمادا على الانفعالات الشخصية والظرفية. كما وأنه لا يضرنا أبدا الانضمام في الوقت المناسب، إذا كنا ننوي أن نصبح جزء من هذا الفضاء.
ستتاح لبايدن أيضا فرصة إعادة تشغيل نظام التعاون غير المتبلور والمشتت مع أوروبا الوسطى. ركزت إدارة ترامب بشكل خاص على التعاون مع بولندا وحاولت بودابست أيضا بناء شيء خاص، ولكن أمكن ذلك جزئيا فقط.
تعاني الشراكة الشرقية اليوم من المأزق المفاهيمي، وهناك الكثيرون في الاتحاد الأوروبي ممن يرغب في تركها هناك إلى أجل غير مسمى. إن أشكال التعاون الحالية تتراوح بين حالة الركود والتدهور، وبيلاروس تكاد لا تشارك فيها، التي تفتح الاحتجاجات السلمية فيها أيضا فرصا مستقبلية جديدة.
يمكن أن يساعدنا التفاعل الإبداعي والموثوق مع الإدارة الأمريكية الجديدة في أن نصبح لاعبا نشطا في فضاء أوروبا الوسطى، وتوجد أفكار مثيرة للاهتمام في هذا المجال، وقد يساعد الدعم الأمريكي في إطلاقها.
من المحتمل جدا أن تتمكن إدارة بايدن من تحسين العلاقات مع الصين، مع إحراز تقدم حقيقي في الحقل التجاري في حين أن المزاحمة بين الطرفين ستتركز على التقنيات الجديدة والأمن. تخشى موسكو بشدة أن تكون روسيا الدولة الثالثة غير الضرورية في هذا اللعبة، لأنها رغم كل الحديث عن التعددية القطبية، لا تستحق دور القطب المنفصل وستُهمش تدريجيا.
من غير المرجح أن يبقى العالم على محور الولايات المتحدة والصين، كما يحب العديد من المحللين التكهن، ولكن على محور الغرب والشرق، ويمكن ذلك بالتأكيد على الأقل في الفترة الانتقالية نحو النظام العالمي الجديد. روسيا اليوم لا تنسجم مع صورة العالم هذه وهي ستحاول عرقلة مثل هذا التطور إن وجدت القوى اللازمة.
ستكون وظيفية المنظمات الدولية، التي تعاني اليوم من أزمة عميقة، أكبر التحديات التي ستواجه الإدارة الأميركية الجديدة. من المستحيل تماما بدون المنظمات الدولية العويل على استجابات عالمية للتهديدات القائمة، لذا لا يجب وقف هذا التدهور فحسب، بل وينبغي عكسه.
لا وجود للحلول البسيطة هنا، حيث ستحاول الدول مثل روسيا والصين عرقلة العمل الفعال للمؤسسات الدولية الذي يتعارض مع مصالحها. ستعود الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية بسرعة من بعد تنصيب بايدن، لكن من الواضح أنها ستحتاج إلى مراجعة عميقة، ليست تقنية فقط، بل وسياسية لأنشطتها وفعاليتها.
يجب فعل الشيء نفسه مع بقية المنظمات الدولية، ومن إحدى الاستنتاجات ستكون ضرورة وقف التخريب الذي يلحق باللاعبين الوطنيين، وسيعني هذا إجراء إصلاح شامل، وهو ما نحن غير مستعدين له.
سيتطلب ذلك قيادة قادرة على تقديم إمكانية بناء تحالف جديد لإعادة تشغيل المنظمات الدولية. هذه مهمة اليوم والغد، لكنها ضرورية إذا ما أردنا امتلاك الأدوات اللازمة لمعالجة القضايا العالمية.
كما وأن إعادة التشغيل الجذري نفسها، من الأفضل القول الإنقاذ، مطلوبة لهندسة الحد من التسلح، الذي يعاني اليوم من انهيار عميق وفوضوي. وسيكون استعداد روسيا لإجراء محادثات جادة حول هذا الموضوع علامة على ما إذا كانت مستعدة عموما لبحث أي موضوع مع الغرب بشكل بناء، أنا لا أعني هنا العملية نفسها، بل النتائج الحقيقية.
في بداية ولاية ترامب، كان هناك الكثير من التكهنات حول إمكانية إعادة انبعاث "يالطا 2". كالصلاة، يكرر الرئيس الروسي الحاجة إلى الحفاظ على النظام العالمي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية، والأساطير الروسية حول هذا الموضوع ليست مخصصة فقط للاستخدام المحلي، بل ولحماية الوضع الراهن، الذي ينص على استخدام حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
لقد خابت آمال روسيا في ترامب بمجالات كثيرة، ولكن قبل تنصيب بايدن، من المثير للاهتمام الحديث عن إمكانية انبعاث جديد لمعاهدة بريست.
أرجو ألا أفهم حرفيا، إذ من الواضح أن الوقائع السياسية والاجتماعية والفكرية، التي كانت منذ قرون تختلف اختلافا جذريا عن وقائع اليوم، ولا يمكن الحديث عن أي متوازيات هنا. كانت بنية الاتفاقات بين ألمانيا آنذاك والنظام البلشفي، كما يمكن أن نقول اليوم، مختلطًة: عدة اتفاقيات رسمية ومذكرات دبلوماسية مفتوحة وسرية واتفاقيات غير معلنة. من المهم بالنسبة لنا أن هذه الاتفاقية كانت المحاولة الأولى لإصلاح تفكك الإمبراطورية الروسية، لذا، المسألة تكمن في نظام الاتفاقات، الذي سيثبت تحول الواقع الإمبراطوري السوفيتي إلى واقع جديد مشروط غير امبراطوري، حيث سيفقد مفهوم "الفضاء ما بعد السوفيتي" نفسه معناه.
تُبيّن تصرفات الكرملين الأخيرة ضد بيلاروس ومولدوفا والصراع في كاراباخ وفي أوكرانيا طبعا، أن موسكو تتفهم هذا التهديد جيدا وأنها ستبدي مقاومة شرسة. التحول إلى دولة "طبيعية" ليس بالتأكيد من مخططات القيادة الروسية الحالية، التي تعتبر أن فقدان العقلية الإمبريالية السوفيتية سيجعل من المستحيل على روسيا البقاء ككيان قائم. البديل واضح: ركود وانحدار نسبي تدريجي في التوجه إلى الماضي، أي باتجاه الأساطير الإمبراطورية السوفيتية أو الطريق إلى الأمام والعودة إلى الدول المتحضرة من خلال تشكيل دولة "طبيعية". من الواضح أن الخيار الأخير ممكن فقط في حالة حدوث تغيير في قيادة الاتحاد الروسي، والرهان هنا مرتفع للغاية لدرجة أنه يتطلب نظام ضمانات جديد تماما، وليس أمني فقط.
يجب أن تخضع مسألة الانتقال المحتمل للأراضي التي تحتلها روسيا لتحليل منفصل، لكن من الواضح أن بوتين يستعد للمساومة مع الإدارة الأمريكية المستقبلية، مدركًا أن مستوى التعاون بينها وبين شركائها في الاتحاد الأوروبي سيكون مختلفا نوعيا. بناء عليه، لن يكون هناك تقدم حقيقي في هذا المجال في المستقبل القريب، وكل ما يحدث اليوم ما هو إلا ضجيج إعلامي ومحاكاة مطلوبة للحفاظ عليه.
لا يمكن أن يكون الاتفاق حول دونباس إلا جزء من اتفاق أوسع بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبيننا (وليس من دوننا) من جهة وروسيا من جهة أخرى، لذا ينبغي توقع التغييرات المحتملة بعد بدء المباحثات الجديدة. لا قيمة لدونباس عند الرئيس الروسي، الذي سيتاجر بأوكرانيا على هذا النحو وسيحاول أيضا حفظ ماء الوجه، لكي لا يبدو ضعيفا في "قضية دونباس"، وإلا ستدمر مكانته داخل روسيا.
على خلفية الدور المتنامي للصين والضعف النسبي لروسيا والاتحاد الأوروبي (الذي يبحث غالبا بصعوبة وبشكل مؤلم عن التوافق بين أعضائه)، ستزداد الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا، وهذا لن يجذب الدعم لدولتنا فقط لأنها مهمة. كما وأن دعم الحزبين ليس أمرا سيدوم إلى الأبد، إنه أمر صعب التحقيق ولكن من السهل خسارته. عدا فهم الأهمية الجيوسياسية لبلدنا، يجب أن يكون هناك نظرة إيجابية نحو أوكرانيا والأوكرانيين، وهي تحتاج إلى الدعم والتطوير.
إن الشيء الأقصى الذي يمكن أن تتوقعه أوكرانيا من فترة حكم بايدن هو الانتقال التدريجي من الشراكة إلى التحالف، ولا ينبغي إضاعة هذه الفرصة، رغم أن هذا سيحتاج إلى مستوى مختلف تماما من الثقة المتبادلة. وهو ما لا يمكن تحقيقه دون إعادة ضبط جذرية للطريقة التي تعمل بها الدولة والمجتمع.
لن يساعدنا أحد ما دمنا لا نريد ولسنا مستعدين لمساعدة أنفسنا. لا يمكن لأوكرانيا اليوم أن تصبح حليفا للولايات المتحدة وجزء من التحالف العابر للأطلسي وأن تحصل على عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ولكنها ستكون في المستقبل قادرة على ذلك ومساعدة الولايات المتحدة في هذا الأمر بالغة الأهمية.
نحن نضيع "بمهارة" الفرصة تلو الأخرى، وفوز بايدن فرصة آخرى، يجب علينا استخدامها بنسبة 101%، إذ قد لا تتاح لنا فرصة أخرى.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
أوكرانيا برس
صحيفة "زيركالا نيديلي" (مرآة الأسبوع) الأوكرانية
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022