عندما يأتي ذكر دولة ماليزيا إلى أطراف الحديث، فإنه يأتي تباعًا اسم رائد النهضة الماليزية، الذي خفف كثيرًا من جراح الماليزيين الاجتماعية والاقتصادية، في وقتٍ كان الماليزيون يعيشون فيه في الغابات وكان متوسط دخل الفرد أقل من ألف دولار سنويًا، هو طبيب جراح ماليزي قبل أن يكون سياسيًا بارعًا حاذقًا في المراوغة السياسية ضد خصومه المناوئين له، حفر اسمه في تاريخ ماليزيا بعد أن حولها خلال عقدين من الزمن من دولة زراعية إلى دولة صناعية صاعدة، إنه "مهاتير محمد" النمر الآسيوي والجرَّاح الذي داوى جِرَاح ماليزيا بتجربته المهاتيرية.
نشأته
ولد مهاتير محمد يوم 20 يونيو 1925 في ألور سيتار بولاية كيداه في ماليزيا، لأسرة والدها معلم مدرسة من أصول هندية، ووالدة ملايوية ربة بيت، اضطر لبيع فطائر الموز والوجبات الخفيفة لتوفير الدخل لأسرته إبان الحرب العالمية الثانية، وخلال الاحتلال الياباني لبلاده.
دراسته
تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في المدارس، ثم في كلية السلطان عبد الحميد بمسقط رأسه، التحق بعدها بكلية الملك إدوارد السابع الطبية في سنغافورة (جامعة سنغافورة الوطنية حاليًا) وتخرج فيها عام 1953، ثم عاد إلى مقاعد الدراسة في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأميركية عام 1967 ليتخصص في الشؤون الدولية.
تدرجه الوظيفي
بدأ ظهور مهاتير محمد في الحياة السياسية الماليزية في عام 1970 وذلك عندما ألف كتابًا بعنوان "معضلة المالايو"، الذي انتقد فيه بشدة شعب الملايو واتهمه بالكسل والاتكالية داعيًا إلى ثورة صناعية شاملة
بعد تخرجه عام 1953، عمل مهاتير في حكومة بلاده التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، وبعد استقلالها عام 1957 ترك الوظيفة وفتح عيادته الخاصة في مسقط رأسه ألور سيتار، والتي كان يقوم بعلاج الفقراء بها مجانًا، كما عمل كضابط طبيب بسلاح الخدمات الطبية، تولى عام 1968 منصب رئيس مجلس التعليم العالي، وعُين عضوًا في المجلس الاستشاري التعليمي العالي عام 1972، ثم رئيسًا لمجلس الجامعة الوطنية عام 1974، وفي العام الموالي عُين وزيرًا للتعليم.
تجربته السياسية المثيرة
عُرف مهاتير باهتماماته السياسية فاهتم بحياة الناس الاجتماعية وكان أقرب إلى الفقراء، اختير لرئاسة جمعية الطلبة المسلمين في الكلية، ودخل عالم السياسة من بوابة حزب "منظمة الملايو الوطنية المتحدة" وتدرج فيه حتى أصبح عضو المجلس الأعلى لتنظيم اتحاد الملايو الوطني، لكن نجمه بدأ يلمع مع انتخابه عضوًا في البرلمان الاتحادي عن دائرة كوتا سيتار سيلاتان عام 1964.
بدأ ظهور مهاتير محمد في الحياة السياسية الماليزية في عام 1970 وذلك عندما ألف كتابًا بعنوان "معضلة المالايو"، الذي انتقد فيه بشدة شعب الملايو واتهمه بالكسل والاتكالية داعيًا إلى ثورة صناعية شاملة تتيح لماليزيا الخروج من حلقة الدولة الزراعية المتخلفة، وذلك بالتزامن مع كونه عضوًا في الحزب الحاكم الذي يحمل اسم منظمة "الملايو" القومية المتحدة، فقرر الحزب منع الكتاب من التداول؛ نظرًا لآرائه العنيفة التي تضمنها، وأصبح مهاتير منذ ذلك الوقت في نظر قادة الحزب مجرد شاب متمرد لا بد من حظر مؤلفاته، ولكن حنكته السياسية لعبت هنا دورًا كبيرًا في تحويل دفة الصراع لصالحه، فقد أقنع قادة الحزب بقدراته، فلم يضق ذرعًا باختلاف وجهات النظر مع قادة حزبه ولم يترك الحزب، حتى صعد نجمه في الحياة السياسية بسرعة شديدة.
عُين عام 1973 عضوًا في مجلس الشيوخ، غير أنه تنازل عن العضوية بالمجلس للمشاركة في الانتخابات البرلمانية 1974 وفاز بها، وفي العام التالي انتخب مساعدًا لرئيس حزب "منظمة الملايو الوطنية المتحدة" ثم نائبًا له 1978، وفي 15 سبتمبر 1978، عينه رئيس الوزراء حسين أون نائبًا له ثم وزيرًا للتجارة والصناعة، قبل أن يصبح رئيسًا للحزب 1981، وعقب استقالة حسين أون لظروف صحية ألمت به، تولى مهاتير في 16 يوليو 1981 رئاسة الوزراء، وبات صاحبُ قرار في البلاد يُمكنه من تنزيل تصوره لتطوير بلاده، وما نادى به في كتابه الذي أثار الجدل في الأوساط السياسية.
عهد النهضة الماليزية
في وقت كان أغلب أفراد الشعب يعانون فيه من فقر مُدقع، وكانت الصراعات الدينية على أشدها بحكم كثرة الديانات، حيث يوجد بماليزيا 18 ديانة بالإضافة إلى العديد من الأعراق، حيث السكان الأصليين وهم الملايا وقسم آخر من الصينيين والهنود وأقليات أخرى، أعطى مهاتير الأولوية للتعليم والبحث العلمي في أجندته الحكومية فخصص له ميزانية كبيرة، واهتم بمحو الأمية وتعلم اللغات، والتدريب والتأهيل الحرفي والمهني، والبحث العلمي بإرسال نخبة من الطلبة الماليزيين للدراسة في الجامعات الأجنبية، كما أدخلت الحكومة الماليزية في عهده الحاسب الآلي ووفرت شبكة الإنترنت في أغلب المدارس الماليزية، وأنشأت مدارس ذكية تعتمد على مواد دراسية تساعد طلابها على تطوير مهاراتهم بمواد متخصصة في شبكات الاتصال وأنظمة التصنيع، حيث تم إنشاء أكثر من 400 معهد وكلية جامعية خاصة، وتقوية العلاقة بين مراكز البحوث والجامعات والقطاع الخاص.
نموذج مهاتير محمد يدعو بلا شك للتأمل في تجربته الرائدة، التي بدأت بتمرده أمام قادة حزبه الذين دمروا الأخضر واليابس في وقتٍ عصيبٍ كانت تعاني فيه البلاد
عهد مهاتير إلى تحويل ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية مثل القصدير والمطاط إلى دولة صناعية متقدمة، فأدخل بلاده _بإصلاحاته في التعليم ومناهجه وأهدافه_ مرحلة التصنيع في التسعينيات، فأثبتت وجودها وباتت قادرة على المنافسة بأكثر من 15 ألف مشروع صناعي، واستقطاب استثمارات أجنبية كبيرة، واستطاع خلال 22 عامًا أن يحقق مكانة مشرفة لبلاده بين الدول الصاعدة بعدما ارتفع الاحتياطي النقدي من ثلاثة مليارات إلى ٩٨ مليارًا، ووصل حجم الصادرات إلى ٢٠٠ مليار دولار، وبات قطاعا الصناعة والخدمات يساهمان بقرابة 90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
كانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52 في المئة إلى 5 في المئة فقط في عام 2002، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1200 دولار في عام 1970 إلى 9000 دولار في عام 2002، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3 في المئة، كان سبب ذلك هو تبني مهاتير مجموعة من السياسات أتاحت لماليزيا أن تكون البيئة المثالية لأفضل الاستثمارات في حنوب آسيا حسب دراسات البنك الدولي، بعد أن شدد على رفضه الاستدانة من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي لحل الأزمة الاقتصادية التي عصفت باقتصاد شرق آسيا نتيجة المضاربة في العملة، حيث قال في بداية عهد نهضته بأن ما يقومون به ليس تجارة وإنما تحكُم في السوق والسياسة الماليزية.
مواقف مشرفة
أعلن مهاتير طواعية في 31 أكتوبر 2003 تنازله عن السلطة واعتزاله السياسة وهو في سن الـ 76، وقال "وقتي انتهى، لن أتولى أي مسؤوليات رسمية بعد اليوم؛ لأنه من المهم أن يتولى قيادة ماليزيا جيل جديد بفكر جديد"، تاركًا لمن يخلفه "خطة عمل" أطلق عليها اسم "خطة 2020" أي شكل ماليزيا عام 2020 والتي ستصبح رابع قوة اقتصادية في آسيا بعد الصين واليابان والهند، كما عُرف مهاتير بموقفه القوي من الاحتلال الإسرائيلي الذي يصفه بالكيان الإرهابي، وانتقد اللوبي اليهودي ودوره في القرار الدولي، واتهمه في مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي عام 2004 بإشعال نيران الحرب ضد المسلمين، كما يُحسب له موقفه المتضامن مع المقاومة الفلسطينية ودعمه لمنظمة التحرير الفلسطينية ومعارضته لحصار قطاع غزة، ومشاركته في حملة دولية لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين، وخلال مؤتمر صحفي بمقر الأمم المتحدة في فيينا مطلع هذا العام ردًا على سؤال أحد الصحفيين بخصوص عدم سماح ماليزيا للإسرائيليين بالمشاركة في بطولة دولية للسباحة، قال مهاتير: "إن إسرائيل لا تلتزم بالقوانين الدولية، وتواصل أنشطة الاحتلال والاستيطان في الأراضي الفلسطينية، وأن بلاده تعتبر الإسرائيليين "قادمين من دولة إجرامية"، وأنهم "غير مرحب بهم" في ماليزيا".
عودة بنكهة تسعينية
بعد غياب 15 عاما عن السلطة، عاد من جديد مهاتير محمد، صاحب 93 عامًا، إلى قيادة ماليزيا واستكمال خطة 2020 محملًا بآمال وطموحات شعب يرغب في إعادة صاحب التجربة الاقتصادية المتميزة في بلاده والعالم، وبدأ مهاتير عمله رافعًا شعار مكافحة الفساد عاليًا، عازمًا على إصلاح "أخطاء" الحكومة السابقة التي ترأسها نجيب عبد الرزاق، وبعد يومين على تنصيبه رسميًا، أدرجت السلطات الماليزية اسم رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق وزوجته في قائمة الممنوعين من السفر، إثر تحقيقات معه وزوجته وبعض أقاربه بتهم الفساد والتربح وتلقي رشاوي خارجية منها 681 مليون دولار فقط من الأسرة المالكة بالسعودية عبر حساباته المصرفية بطرق غير شرعية.
نموذج مهاتير محمد يدعو بلا شك للتأمل في تجربته الرائدة، التي بدأت بتمرده أمام قادة حزبه الذين دمروا الأخضر واليابس في وقتٍ عصيبٍ كانت تعاني فيه البلاد، إلا أنه بإصرار وطموح بجانب الحنكة السياسية استطاع انتشال بلاده وشعبه بما فيهم قادة حزبه الذين عارضوه في بادئ الأمر، وكم في بلادنا مثل "مهاتير محمد" ولكنه مكبل اليدين والقدمين!
المقال نقلا عن "مدونات الجزيرة"
المقال يُعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس"
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022