حدث ما كان محتّماً في أوكرانيا. استقال رئيس الوزراء أرسيني ياتسينيوك، يوم الأحد، بعد فترة طويلة نسبياً من العلاقة المتقلّبة مع رئيس الجمهورية بيترو بوروشينكو. دفع الرجل ثمن كل أخطاء القيادة في كييف، من الفشل في متابعة اتفاقيات مينسك، وصولاً إلى العجز عن كسب معركة الغاز مع روسيا، مروراً بعدم القدرة على فكّ العقد السياسية الداخلية. وكما كان مصير وزير المالية اليوناني السابق، يانيس فاروفاكيس، لم يكن مصير ياتسينيوك، الاقتصادي أيضاً، أفضل.
خرج ياتسينيوك من المعركة السياسية مهزوماً، بعد أن كان يُمنّي النفس بتحوّله رقماً صعباً في أوكرانيا، شبيهاً إلى حدّ ما بفيكتور يوتشنكو، أو أقلّه يوليا تيموشنكو. ويبدو أن بوروشينكو، كان قد جهّز للأمر مسبقاً، مع "توقّعه"، مساء الأحد، أن "يُشكّل رئيس البرلمان، فلاديمير غرويسمان، الحكومة المقبلة"، مشيراً إلى أنه "ننتظر أخباراً سارة من البرلمان، وآمل أن تُشكّل الكتل البرلمانية حكومة ائتلافية، وأن يعرض عليَّ مرشح لتولي منصب رئيس الحكومة". وأكد أنه "على استعداد تام للتعامل مع أي شخص يتولى المنصب". بالنسبة إلى بعض الأوكرانيين فإن الوضع سيتدهور أكثر، بل ستصبح الأوضاع "أكثر سوءاً بالنسبة إلينا"، وفقاً لتعليقات أوكرانية.
أما ياتسينيوك، الذي سيُقدّم استقالته رسمياً، اليوم الثلاثاء، إلى الرادا (البرلمان) فسجله الحافل بالمعارك الخاسرة في الأشهر الأخيرة كان خير دليل على قرب هزيمته. سعى إلى فرض العقوبات على روسيا، في القطاع التجاري والغاز. نجح بعض الشيء في الملف التجاري لكنه لم يلاقِ النجاح عينه في قطاع النفط، حتى إنه قال في جلسة حكومية إنه "فرضنا عدداً من العقوبات ضد روسيا. ولكن لسبب ما فإن قائمة العقوبات لم تشتمل على عنصر رئيسي، وهو شراء منتجات النفط الروسية". وطلب وضع آلية لحظر شراء منتجات النفط من "المعتدي" (روسيا)، الأمر الذي لم يحصل، وفُسّر على أنه محاولة من بوروشينكو، لترك ياتسينيوك يغرق وحيداً في أزمته، لتسريع خروجه من الباب الخلفي للحكومة.
كان بوروشينكو يريد بأي ثمن التخلّص من ياتسينيوك، بعد عجز الرادا عن إقالته، في 16 فبراير/شباط الماضي، وعدم نجاح التظاهرات الاجتماعية في زحزحته من موقعه. الغاز الذي تتمحور حوله كل العلاقة الروسية ـ الأوكرانية وتداعياتها، أسقط ياتسينيوك، يوم الأحد. مع العلم أنه لو لم يُقدّم استقالته، لما كان متاحاً إعادة طرح الثقة بحكومته برلمانياً، قبل سبتمبر/أيلول المقبل، وفقاً للدستور الأوكراني.
وقد ظهر بعد عامين، أن الائتلاف بين بوروشينكو وياتسينيوك وعدد من الشركاء، لم يكن ناجحاً، وقادراً على إبعاد الخطر الروسي، ولا على كسب ثقة المجتمع الدولي. وهو ما أدى إلى الفشل في التعامل مع بعض تدابير التقشف الصارمة التي فرضها صندوق النقد الدولي.
مصير ياتسينيوك بدا مشابهاً لمصير اليوناني فاروفاكيس. الاثنان كانا "ممراً" لإقرار مساعدات مالية غربية، والاثنان كانا ضحيتها مع بدء تنفيذها. تعامل الغرب مع استقالة ياتسينيوك بشكل "عادي"، إذ اتصل نائب الرئيس الأميركي جو بايدن به، بعد إعلانه الاستقالة، و"اتفقا على أهمية مواصلة الإصلاحات الاقتصادية وكذلك الخطوات التي تنتهجها كييف نحو الاستقلال في مجال الطاقة". وذكر بيان للبيت الأبيض أن "الزعيمين اتفقا أيضاً على أهمية تشكيل حكومة جديدة تلتزم بتنفيذ الإصلاحات الضرورية، خصوصاً تلك التي أوصى بها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي".
هنا يظهر التقارب بين ياتسينيوك وفاروفاكيس، فقد تمّ دفع الأخير إلى الاستقالة في أثينا، الصيف الماضي، بعد الاتفاق اليوناني ـ الأوروبي حول الحزمة المالية لمساعدة بلاد الإغريق. وبعد أن كان فاروفاكيس، رأس حربة حكومة "سيريزا"، برئاسة أليكسيس تسيبراس، تحوّل إلى "كبش فداء" الصفحة الجديدة بين الحكومة والغرب.
مستقبل ياتسينيوك يبدو مبهماً بعض الشيء. في أوكرانيا، لا يُمكن لأحد "الانتهاء سياسياً" نهائياً، ربما لمحدودية الخيارات السياسية، بعد استقلال البلاد عام 1991 عن الاتحاد السوفييتي إثر انهياره. كما أن من الأسباب الأساسية لضيق الخيارات في كييف، هو تسلّم ليونيد كوتشما، الرئيس الثاني لأوكرانيا بعد الاستقلال، السلطة لـ11 عاماً تقريباً بين 1994 و2005، ما أدى إلى غياب أية مرحلة انتقالية سليمة، بعد تفجّر "الثورة البرتقالية"، في ظلّ وجود جار روسي، لم يتخلّ عن أحلامه السوفييتية بعد.
ومن الأفكار التي تتيح بقاء ياتسينيوك على الساحة السياسية، هو تشبّثه بفكرة "انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي"، واعتبارها "هدفاً رئيسياً لكييف". مع العلم أن أوكرانيا، تلقّت دفعة إيجابية في الموضوع الأوروبي، مع إعلان المفوضية الأوروبية عزمها على تقديم اقتراح هذا الشهر، لمنح "السفر من دون تأشيرة إلى الأوكرانيين"، على الرغم من التصويت السلبي في الاستفتاء الهولندي، الأسبوع الماضي، الرافض للتقارب بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا. لكن رئيس المفوضية جان كلود يونكر، اعتبر أنه "قد يبدو كما لو أننا تجاهلنا الناخبين الهولنديين، ولكن علينا أن نفي بوعدنا لأوكرانيا". بالتالي فإن المنتصر في هذه الوضعية الجديدة، ستكون الحكومة الجديدة، ما يسمح لبوروشينكو باستعادة بعض الثقة، أثناء خوضه معركته الخاصة في مسألة "أوراق بنما"، التي ورد اسمه فيها، من بين مجموعة من الشخصيات السياسية والفنية والرياضية العالمية.
المرحلة المقبلة أوكرانياً، ستكون حاسمة، بسبب عاملين: الأول أن العلاقة بين روسيا والغرب بدأت بالتحسّن شكلياً، انطلاقاً من قرب انعقاد المجلس الأطلسي ـ الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسل، بعد أقل من أسبوعين، وذلك للمرة الأولى منذ ضمّ روسيا بالقوة لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في مارس/آذار 2014. العامل الثاني، هو أن روسيا نجحت حتى الآن، في فرض سياستها بعض الشيء على الأوروبيين، مع دعمها اليمين الأوروبي في مسألة اللجوء، ما يفيد بحصول المزيد من التراخي الغربي في موضوع الحرب في حوض "دونباس" (إقليمي دونيتسك ولوغانسك)، في الشرق الأوكراني. الأكيد، هو أن ياتسينيوك سيعود يوماً إلى كييف. فعلتها تيموشنكو، وحتى الرئيس المخلوع، المدعوم روسياً، فيكتور يانوكوفيتش أيضاً، لكن الأمر متعلق بالتوقيت و"حميمية" العلاقة مع روسيا.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
العربي الجديد
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022