بقلم: د. أمين القاسم - القرم
التهجير أو الإبعاد القسري (الترانسفير) مصطلح يعني طرد عنصر سكاني من محل إقامته، وإعادة توطينه في مكان آخر دون إرادته، وهو قائم في الغالب على أساس عنصري قومي أو ديني.
وقد تعرضت عدة شعوب لهذا النوع من الترحيل الإجباري، كشعب الأندلس على يد الإسبان، وسكان أفريقيا ونقلهم إلى الأمريكتين، والشعب العربي الفلسطيني وتشريده في أصقاع الأرض، وكذلك الشعب القرمي التتري المسلم على يد الجيش الأحمر الشيوعي السوفيتي.
وقد تعرض شعب إقليم شبه جزيرة القرم المسلم (في جنوب أوكرانيا حاليا) منذ استيلاء روسيا القيصرية على الإقليم عام 1783م لعدة حملات اضطهاد دفعتهم إلى التشتت في دول آسيا الوسطى وسيبيريا وتركيا وبلغاريا ورومانيا، ومورست ضدهم شتى أنواع العنف والتمييز، فهدمت مساجدهم ومدارسهم وبيوتهم، وأحرقت مصاحفهم وكتبهم، وذلك بهدف إفراغ القرم من أهله المسلمين و"ترويسه".
وكانت حملات التهجير والإضطهاد تتصاعد منذ ضم الإقليم، وبعد حرب القرم بين روسيا والدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا عمدت الحكومة الروسية إلى طرد أعداد كبيرة بحجة انحيازهم إلى الأعداء، وفي نهاية العشرينيات شن الشيوعيون حملة تطهير ضد المفكرين التتار، وتم نفي 40 ألف مسلم إلى سيبيريا، وعلى أثرها أعدم رئيس الحكومة التترية آن ذاك (ولي إبراهيموف) في العام 1929م.
وكانت المأساة الكبرى في عملية الإبعاد الجماعية التي تمت صباح 18 أيار/مايو من عام 1944م واستمرت 3 أيام، حيث قام الجيش السوفيتي بتهجير كامل سكان شبه جزيرة القرم من التتار والأرمن واليونان والألمان والترك إلى أسيا الوسطى وحوض الفولغا والأورال، متبعا سياسة التقطيع والبعثرة، وذلك بتهمة وقوفهم إلى جانب الجيش الألماني النازي عندما احتل القرم 1941 - 1944م.
وقد هجر على أثرها 200 ألف مسلم، جلهم من الشيوخ والأطفال والنساء، في حين كان كثير من الشباب القرمي يخدم في الجيش الأحمر، وفي مختلف القطع والرتب والجبهات العسكرية، وفي السنة الأولى من التهجير، وتحديدا خلال الطريق الطويل والقاسي (الذي وصل إلى 6000 كم) مات 40% منهم بسبب البرد والمرض والجوع.
ولتصور مدى الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب المسلم نذكر أنه في عام 1770م (بحسب الإحصائيات الروسية) كانت نسبة تتار القرم 93% والباقي من الأرمن واليونان، وفي هذه الإحصائية لا وجود فيها للقومية الروسية، بينما في إحصائية عام 1959م (وحسب المصادر الروسية أيضا) فنسبة الروس 71%، والأوكران 22%، والباقي من اليهود وقوميات أخرى، ولا وجود للتتار المسلمين أبدا.
وفي سبتمبر من عام 1967م صدر قرار من مجلس الشعب السوفيتي يمنح التتار القرميين في أماكن إقامتهم الجديدة الحقوق كمواطنين سوفيت، ولهم حق المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والسياسية، والترشح والانتخاب للمجالس المحلية والبرلمانية، والعمل في جميع المهام الوطنية والحزبية، بدأ العمل على بث راديو بلغتهم وإصدار صحيفة باللغة التترية، كما سمح لهم بإقامة المناسبات الثقافية الخاصة بهم".
وقد سمح لهم ببعض هذا، ولم ينالوا كل حقوقهم التي وردت في القرار، وبقيت حالة التمييز والإضطهاد قائمة.
واعترف مجلس الشعب السوفيتي في عام 1989م "بعدم قانونية التهجير القسري، وأنها جريمة تعرضت لها الشعوب التي هجرت ويجب ضمان حقوقها".
مع نهاية الثمانينيات بدأ التتار بالعودة، فبين عامي 1989 - 1992م كان يعود في كل عام مابين 35 - 40 ألف شخص، وفي العام 1997 كان عدد العائدين 5.3 ألف شخص، ووصل خلال العام 2002 ألفي شخص.
بأقلام مفكرين روس وشيوعيين
وقد كانت ثقافة التهجير متجزرة وفكرة قابلة للتبني – وللأسف - عند العديد من المفكرين والأدباء والمؤرخين في تلك الفترة، فها هو الكاتب الروسي بافل سوماركوف (1767 - 1846م) يكتب خلال رحلته في القرم عام 1799م: "الشيء الأحسن والأفضل لتفريدا (الاسم القديم للقرم، ولاحظوا استخدامه لهذا الاسم رغم أنه في زمنه كانت تعرف باسم القرم فقط)، عندما يتركها التتار ويأخذوا مخابزهم و مواشيهم ويرحلوا للعيش في سهول أورنبورغ وأوفا".
وقد بارك خطوة إبعاد تتار القرم عدد من الكتاب السوفيت، ووصفت بعبارات من أمثال: "الدرس الذي لن ينساه التتار وأمثالهم"، و"القرم أيقونة الأرض الروسية"، و"الحملة المباركة لتنظيف القرم".
وهذا الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818 - 1883م)في الجزء 14 من كتاب (مجموع الأعمال) يقول إن من أهم نتائج إتفاقية باريس لوقف الحرب "اجتثاث الروس لتتار القرم"، وفي الجزء 18 من كتابه يستشهد بقول المفكر والثائر الوطني ميخائيل باكونين (1814 - 1876م): "دعونا نرسل التتار إلى أرضهم في آسيا"، ويضيف على لسان باكونين في نفس الجزء من الكتاب: "نحن بحاجة إلى حرب صليبية ضد التتار".
آثار الإبعاد على الشعب المسلم
التهجير كان كارثة، انعكست آثاره على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية لتتار القرم، فقد خسر المسلمون أراضيهم وأملاكهم من البيوت والعقارات والمزارع والمواشي ووسائل النقل، ولم يستطيعوا استعادتها حتى الآن، إلا ما اشتروه من جديد.
وتم تغيير 80% من أسماء المدن والقرى والبلدات القرمية إلى أسماء باللغة الروسية، واستجلب الروس والأوكران واليهود للعيش في القرم مكان التتار، ففي عام 1948م وحده - وحسب مصادر السوفيت - جاء أكثر من 7000 شخص من روسيا لاستيطان القرم، وسبقها وتلاها هجرات متلاحقة مع امتيازات وتسهيلات للمستوطنين الجدد.
وقبل الحرب العالمية الثانية والتهجير، ورغم التضييق على القرميين، كانت الحياة الثقافية قائمة، إذ كانت تصدر 7 صحف قرمية، بينما في سبعينيات القرن الماضي سمح بصدور صحيفة واحدة.
وصدر في شهر سبتمبر وحده من عام 1939م صدر 68 كتابا باللغة التترية، ومن عام 1944 حتى 1973 صدر كتابان فقط بالتترية، وبسبب هذا فقد الأحفاد لغتهم.
وقبل 1944م كانت قد صدرت عدة معاجم وقواميس للغة التترية، وبعدها منعت إعادة طباعتها بعد ذلك، وفي العام 1973م حاول بعض المفكرين التتار إعادة طباعة بعضها، ولكن رفضت المطابع الحكومية ذلك – كما تبين الوثائق - بحجة أن خططها السنوية لا تتحمل طباعة كتب جديدة، وذلك رغم طباعة عدد من الكتب بلغات محلية لشعوب تقل عددا عن تتار القرم.
ومازال حتى الآن 100 ألف قرمي مع أولادهم وأحفادهم مهجرين في روسيا وأوزبكستا ن وقرغيزيا وطاجكستان، وأما في القرم اليوم، فيعيش القرميون المسلمون في أكثر من 300 قرية وبلدة ومدينة، وما يزالون يكافحون للحصول على حقوقهم ويجدون في العلم والعمل.
أوكرانيا برس
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022
التعليقات:
(التعليقات تعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس")