بقلم: د. أمين القاسم - القرم.
ولد الشاعر والفنان والأديب المفكر تاراس شيفتشينكو في إحدى قرى العاصمة الأوكرانية كييف عام 1814م لأسرة تعمل بالزراعة، نشأ يتيما وعمل منذ طفولته خادما، وفي سن السابعة عشر انتقل مع سيده إلى مدينة سان بطرسبورغ حيث تعلم الرسم وتعرف على عدد من الرسامين والأدباء الكبار الذين افتدوه بالمال وحرروه من رقعة العبودية.
عاد شيفتشينكو إلى أوكرانيا عام 1845م، ومارس العمل السياسي السري ضد سيطرة وسياسة القياصرة الروس، فاعتقل ونفي إلى اورينبورغ (جنوب جبال الأورال)، ليخدم بصفته مجندا، ومنع من الكتابة والرسم.
عاد شيفتشينكو إلى أوكرانيا عام 1859م، ولم يلبث أن أعتقل مجددا بتهمة التحريض الثوري.
توفي شيفتشينكو في بطرسبورغ 1861م، حيث شيعه جمهور من الأدباء والمفكرين الأوكرانيين والبولنديين والروس، ونقل رفاته إلى مدينة كانيف في أوكرانيا.
غلب على أعماله الطابع الإبداعي (الرومانسي)، ويعتبر رائد المدرسة الواقعية النقدية - مع وجود نزعة واقعية - في الأدب الأوكراني، وقد مجد في أعماله الحرية، ودعا إلى الكفاح ضد الاستبداد والعبودية.
ويعتبر عميد الأدب الأوكراني الجديد، وواضع أسس اللغة الأدبية الأوكرانية المعاصرة.
وقعت أوكرانيا لفترات طويلة على حدود الدولة الإسلامية، وكان الأوكرانيون على تواصل مع المسلمين، وعلى الأخص مع تتار القرم والأتراك، وتجاذبت هذه العلاقة بين الحرب والسلام.
ومن المعروف أن الأمير والقائد الأوكراني بوغدان خميلنيتسكي (1595 - 1657م) تحالف في حربه ضد البولنديين 1648م مع خان القرم إسلام كيراي الثالث.
كما ونجد أن العديد من الكلمات الأوكرانية ذات جذور تركية، ويوجد عائلات أوكرانية تحمل ألقابا تعود إلى اللغة التركية.
وهذه العلاقة مع الشعوب والحضارة الإسلامية انعكس تأثيرها في كتابات ورسومات الأديب والمفكر تاراس شيفتشينكو، وللأسف أغفلت الدراسات النقدية التي تناولت أدب هذا المفكر الكبير هذا الجانب المهم من إبداعاته.
وسنتناول أدبه من خلال كتاباته عن الأتراك وشعوب القوقاز والشعوب التركية في آسيا الوسطى من الكازاخ والقرغيز.
ففي إحدى كتاباته عام 1843م تحت عنوان (القيصرة التركية)، وهي أسطورة تحمل طابعا رومانسيا، يقول: "في جبل عال بحفرة كبيرة لا يعيش طير ولا حيوان، تعيش قيصرة تركية منذ مئة ألف عام لاتصغر ولاتكبر بالعمر، ولكنها تزداد شرا، تأكل من الصباح حتى المساء، لاتأكل الخبز ولا الدجاج ولا أي طعام من أطعمة البشر، ولكنها تتعقب الأطفال الصغار وتأكلهم".
نلاحظ من خلال مقدمة الأسطورة وفحواها الصورة السلبية التي يرسمها شيفتشينكو للشخصية التركية المسلمة.
وإذا عدنا إلى باكورة أعمال شيفتشنكو (إيفان بودكوفا) و(غاماليا)، التي كتبها عام 1842م، نجده يتحدث عن رحلة أحد سكان زبروجيا إلى إسطنبول، وفيها مزج التاريخ بالفلكلورالشعبي الأوكراني والتركي، وقد استسقى مفردات هذه الرحلة من أستاذه (كارل بروللوف) الذي سافر إلى اليونان وتركيا، وذلك في وقت كان فيه الشرق يستهوي الأوربيين والروس بكل مافيه.
وفي قصيدته (غاماليا) تحدث عن تركيا الدولة الغنية والكسولة، والسلطان الحالم بالحريم، وعكس هذا بلوحة فنية سماها (عند الحريم)، رسمها عام 1843م.
وإذا تركنا النظرة السلبية عند شيفتشينكو حول الأتراك وتراثهم، وهي نظرة متأثرة بالواقع الأوكراني والروسي، فإننا نجد النظرة الإيجابية حول القفقاس وشعبه المسلم، ففي ملحمته (القفقاس) التي كتبها عام 1845م نجده يدافع عن حرية شعب القفقاس ضد اضطهاد الإمبراطورية الروسية، وقد انفرد بهذا عن أقرانه من الأدباء الذين عاصروه، وأبدى إعجابه بشعوب القفقاس المسلمة ودفاعها عن حقهم في الحرية والحياة الكريمة، وشبههم بالأبطال والمحاربين الأشداء الذين تشملهم حماية الرب.
ويظهر من خلال قصيدته (القفقاس) عدم تفضيله الحضارة والثقافة الروسية على نظيرتها لدى شعب القفقاس، فخطابه يخلو من لغة التكبر والاستعلاء على الآخرين، ويميل بمشاعره إلى الإسلام وسماحته أكثر من المسيحية.
وعند مقتل صديقه (ياكف ديبالين) في القفقاس – والذي كان يخدم في جيش القيصر الروسي- حمل مسؤولية موته وموت الكثيرين مثله لسياسة القياصرة الخاطئة ضد الشعب القفقاسي.
وفي عام 1847م تم إبعاد شيفتشينكو إلى كازاخستان، فتابع تواصله مع المسلمين من خلال الشعب الكازاخي، وفي قصيدته (الحلم) التي كتبها عام 1848م يظهر فيها اهتمامه ودراسته للفلكلور والعادات الكازاخية ومفردات معيشتهم واطلاعه الكبير على الدين الإسلامي، وفي (الحلم) نلاحظ أن شيفتشينكو يعزو سبب الحياة الكريمة لدى شعب القرغيز وأفضليتها على حياة الأوكران إلى أن الإسلام هو دينهم، فيقول:
Блукавяпосвітучимало
...Носивісвитуіжупан
НащовжелихозаУралом
,Отимкиргизам, отже, йтам
,Єйжебогу, лучшежити
.НіжнамнаУкрайні
Аможет, тим, щокиргизи
?Щенехристияни
سافرت في بقاع كثيرة
لبست القميص و التشوبان (قميص طويل يلبسه شعب آسيا الوسطى)
لم المصائب في ماوراء الأورال
هناك حيث القرغيز الذين يعيشون
يا ربي هم يعيشون أفضل منا في أوكرانيا
هل بسبب أن القرغيز ليسوا مسيحيين؟
وخلال فترة إبعاده في كازاخستان، التي استمرت 11 سنة رسم 450 لوحة، منها 350 لوحة عن طبيعة و مفردات معيشة الكازاخ، لذا يعده عدد من مفكري الكازاخ أحد الأبطال القوميين للشعب الكازاخي، وحاليا توجد مدينة باسمه في جمهورية كازاخستان تكريما له.
وفي كتابه (يوميات) كتب أشياء عديدة عن الشعوب المسلمة في آسيا الوسطى، كتبها بين عامي 1858 - 1857م، وتظهر فيها النظرة والتحليل الإيجابي لعادات وممارسات المسلمين.
فق وصف ما يقوم به القرغيز والتركمان من قراءة الأدعية على قبور أوليائهم، ولحظات الخشوع والتدبر التي يقوم بها المؤمنون.
وهكذا نجد أن نظرةشيفتشنكو لحضارات الشرق والإسلام لم تكن تصادمية، بل يمكن وصفها بالحميمة، ولعب كرهه لروسيا القيصرية وسياستها ضد الشعوب الواقعة تحت حكمها دورا في قربه من الشعوب التركية المسلمة.
أوكرانيا برس
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022