الطريق الانجح لمفاوضة النظام الروسي

خسائر الاسطول البحري الروسي في البحر الاسود لحد الشهر الخامس من العام الحالي
نسخة للطباعة2024.06.19
عبد الرحمن الشامي

في الشهر الخامس من عام 2022 وصلت الازمة الغذائية العالمية الى اسوء مراحلها منذرة بمجاعات حول العالم على هامش الغزو الروسي لأوكرانيا  الذي تبع ازمة كورونا, لتصبح المفاوضات في ما يعرف ب "اتفاقية الحبوب" البداية التي جعلت العالم يتنفس الصعداء للتخفيف من حدة الازمة الاقتصادية العالمية, لتعود اليوم أسعار القمح الى مستويات ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا, على الرغم من ان الحرب لم تنتهي بعد, فكيف نجحت العملية؟  

بالعودة الى الحالة اليوم فعلى هامش قمة السلام التي انعقدت للتو في سويسرا يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بدعوة العالم الى "خطته للسلام" عن طريق استسلام أوكرانيا وتسليمها أربعة أقاليم تحتل روسيا مساحات واسعة منها والاعتراف بها مع القرم على انها جزء من روسيا والالتزام بعدم الدخول في الناتو مقابل إيقاف بوتن حربه على أوكرانيا وعلى شعبها

بما أن الحرب الروسية الأوكرانية حرب طاحنة سببت خسائر رهيبة ليس فقط للطرفين المتحاربين بل للعالم كله, فأن اغلب الأطراف العالمية تبحث عن أي بارقة للسلام وانهاء الحرب! وعلى الرغم من ان الشروط الروسية مجحفة ومستفزة ومخالفة صراحة لكل الاتفاقيات الدولية الا ان كثير من الأطراف بدأت تسأل السؤال الذي يطرح منذ بداية الحرب, كيف نوقف الحرب وكيف نعود الى مربع السلام؟ وهل الشروط الروسية تستحق النظر فيها مقابل السلام؟

لماذا لا تثق أوكرانيا بالنظام الروسي؟

بادئ ذي بدأ يجب التذكير ان الشروط التي يتحدث بها بوتن غريبة! فهو لو أراد العودة الى الاتفاقيات الدولية كما يدعي فان العودة الطبيعية تكون الى واقع 1991 المؤيد باتفاقية بودابست عام 1994! وهي ان أوكرانيا دولة مستقلة سلمت سلاحها النووي لروسيا مقابل حماية حدودها بضمانات من روسيا وامريكا وبريطانيا!

بالتالي من الواضح ان بوتن نفسه اما انه خرق اتفاقية بودابست بشكل واضح او انه لم يفهم ان الضمانات المقدمة من قبل أمريكا وبريطانيا منذ البداية لم تضع أوكرانيا بعيدة عن الناتو فتلك الدول هي التي فعليا تحكم الناتو عسكرياً ولا يوجد فرق عملي بين اتفاق عسكري امني مع بريطانيا وامريكا او الناتو وهذا ما وقع عليه الروس أصلا عام 1994! الروس الذين لم يظهروا أي اهتمام حقيقي عندما دخلت كل من فنلندا والسويد في الناتو مما جعل المدن الروسية الكبرى مثل سان بطرسبرغ فعليا في نيران الناتو وهي دول اقرب بكثير لهذه المدن من أوكرانيا, مما يؤكد ان قصة الناتو هي شماعة لتبرير التوسع الروسي.
اذا المشكلة التي يجب ان نتذكرها في حال مناقشة أي اتفاق للسلام هو ما هي الضمانات؟ خاصة وان الطرف الروسي لم يحترم الاتفاقيات السابقة! وهو على الرغم من تحججه بان أوكرانيا أيضا لم تنفذ اتفاق منسك! فهذه حجة ضعيفة مبنية على ان منسك لم تكن واضحة وان الأطراف التي وقعت لم تحدد اطر زمنية ولا أولوية لتنفيذ البنود من ناحية ومن ناحية أخرى روسيا أصلا ليست طرفا في منسك! هي تعتبر بحسب روسيا نفسها طرف مراقب! منسك يفترض انها اتفاق داخلي بين الاوكران وما تسميه موسكو بالانفصاليين الاوكران! بمعنى اخر حتى لو افترضنا ان أوكرانيا ماطلت في اتفاق منسك فهذا شان داخلي لا علاقة للروس به على عكس اتفاق بودابست الذي تم انتهاكه من قبل الروس 3 مرات على الأقل في اخر 30 عام سواء في حادثة جزيرة توزلا عام 2003 او في دخول الروس الى القرم والدونباس عام 2014 او في الهجوم الروسي الشامل على أوكرانيا عام 2022!
بكل الأحوال ومع انه من الواضح ان الروس لم يلتزموا باي اتفاق سابق تماما كما فعلوا ليس فقط في أوكرانيا بل في سوريا والشيشان من قبل مع ذلك هناك من لا يزال يريد اتفاق مع الروس من اجل السلام وهو امر طبيعي فكل العالم تعب من الحرب ويتمنى ان يرى السلام! وبدون شك أي حرب نهايتها سوف تكون بتوقيع اتفاق! اذا السؤال لماذا اذا المماطلة؟

السيناريو المتوقع في حال توقيع الاقتراح الروسي

جواب السؤال يعيدنا الى الضمان! اذ ان توقيع اتفاقية مع الروس ليس بالمعضلة! المعضلة هي وجود ضمانات تضمن ان الروس الذين لم يحترموا الاتفاقيات من قبل سيحترمونها اليوم!

الصورة العامة الرومانسية هي ان يتفق الأطراف الان على انهاء الحرب على الحدود التي تحدث عنها بوتن "والتي هي بالمناسبة اكثر بكثير مما يسيطر عليه الروس حالياً" مقابل ان تكف القوات الروسية عملياتها العسكرية وبما ان اتفاق سلام قد حصل وروسيا لم تعد في حرب مع أوكرانيا هذا يعني إعادة روسيا الى الساحة الدولية وإزالة العقوبات الدولية التي تعيق نمو الجيش الروسي! والسؤال هو كم يحتاج الجيش الروسي من الاستراحة خاصة في ظل إزالة العقوبات قبل ان يستجمع قواه ويعود لدخول كييف وانهاء ما بدأه بوتن عام 2022؟ لهذا السبب لا يملك الأوكران رفاهية الموافقة على اتفاق مذل لهذه الدرجة ليس فقط لانه انتصار للجهة الغازية وليس لاته تنازل عن الوطن وعن المواطنين وهو غير شرعي باي حال من الأحوال بل لانه يعني هلاك الدولة الأوكرانية نفسها عاجلا ام اجلا بمجرد استعادة الروس انفاسهم وتجميع قواهم وهم بالتأكيد الطرف الأقوى والاكبر والاضخم! وهذا حرفيا ما فعلته روسيا في سوريا والشيشان! لم تنجح روسيا بالانتصار العسكري في سوريا والشيشان! بل فعلت ذلك من خلال اتفاقيات "تهدئة" انتهت بابتلاع الروس لاغلب المناطق الروسية الثائرة وبابتلاع كامل للشيشان! لذلك يصر الروس على تكرار هذا السيناريو في أوكرانيا لانهم يعلمون تماما كيف سينتهي.

اتفاقية الحبوب كمثال على التفاوض الناجح

ما البديل اذا امام الاوكران؟ لا يوجد بدائل كثيرة! الوضع الاوكراني معقد, لكن التاريخ يشهد على حادثة مفاوضات انتهت بالنتيجة المرجوة مع روسيا ونعود هنا الى نقطة البدأ في المقالة في الحديث عن مفاوضات الممر البحري للقمح والأغذية, حيث ومع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا شهد العالم ارتفاع رهيب في أسعار القمح التي تعد روسيا دولة مصدرة له وكذلك أوكرانيا, احد اهم الأسباب هو قرصنة السفن الروسية على السفن الأوكرانية ومنعها من تصدير القمح للعالم بحجة "تهريب السلاح" وهي حجة غريبة جدا! اذ ان أوكرانيا تحارب روسيا فما حاجتها لان "تهرب السلاح" خارج أوكرانيا عبر السفن الخارجة من أوكرانيا عبر البحر الأسود؟ لو كان الروس صادقين في هذه الحجة لاكتفوا بتفتيش السفن الداخلة الى أوكرانيا وليس العكس! لكن روسيا كانت بحاجة الى حجة لتقرصن على أوكرانيا وتصعب وضعها الاقتصادي وتضغط على العالم اقتصاديا عبر التجويع وترفع أسعار منتجاتها القمحية وقد حصل!
دبلوماسيا استطاعت تركيا وباستخدام العلاقات الشخصية والضغط المباشر بين اردوغان وبوتن للتوقيع على اتفاقيات مرحلية تسمح للسفن الأوكرانية من المرور بممر معين وبتفتيش من الروس يعطي الروس بعض السيطرة على البحر الأسود مقابل السماح المقيد للسفن الأوكرانية, وكعادة روسيا لم تلتزم بالاتفاقية وحصل تجاوزات روسية عديدة بحجج ان الطرف الاوكراني الذي كان يحارب الاسطول الروسي في البحر الأسود بعيدا عن تلك الممرات! اعتبرتها روسيا تجاوزات للاتفاقية مع ان جسر القرم الذي استهدفته القوات الأوكرانية بعيد كل البعد عن الممر البحري المحدد بالاتفاقية.  
النجاح الاوكراني كان بادراك ان الطرف الروسي لن يلتزم بالاتفاقية والعمل على حل بديل! الاوكران كانوا يعملون سرا على مشروع من الدرونات البحرية او الزوارق المسيرة! وعلى الرغم من ان أوكرانيا وبعد بداية حرب 2022 لم تعد تملك اسطول بحري في البحر الأسود الا ان الزوارق الأوكرانية المسيرة والطيارات المسيرة قلبت المعادلة! لدرجة انه وبعد خروج روسيا رسميا من اتفاق تصدير القمح سددت القوات الأوكرانية ضربات كبيرة للأسطول الروسي لترغمه على الابتعاد وبالقوة عن ممرات القمح! وعلى الرغم من ان بوتن حاول في محاولة يائسة استهداف صوامع القمح وحرقها في اوديسا الا ان أوكرانيا عادت لتصدير القمح للعالم لتعيد أسعار القمح في العالم الى مكانها الطبيعي وتنهي المجاعة التي تسببت بها القرصنة الروسية, خسائر الاسطول الروسي في البحر الأسود كانت مهولة! نوردها لكم في الصورة الملحقة في مع هذا المقال, لكن الفكرة الرئيسية هي ان نظرية "عدم اغضاب الدب الروسي" هي النظرية التي تسببت بالأساس بغزو روسيا لاوكرانيا بعد صمت العالم عن احداث 2014! بمعنى اخر انه لو تم عقاب روسيا عام 2014 لما حصلت أحداث 2022! وهذا بالضبط ما تم العمل عليه عندما قامت الجهود الأوكرانية بالتعاون مع الاستخبارات الغربية على تطوير درونات كفيلة بردع واخافة الروس مما أعاد الوضع الى ما كان عليه في البحر الأسود قبيل الحرب!

المحصلة

العبرة هي ان النظام الروسي لا يفهم الا لغة القوة! وان أي اتفاق لا تحميه قوة عسكرية لا معنى له, بالتالي ان ارادت أوكرانيا ان تحصل على الأمان فطريقها الرئيسي يمر عبر الاستثمار العسكري أولا والتحالفات العسكرية الاستراتيجية ثانيا حتى لا تعود أوكرانيا كما كانت عليه صبيحة يوم 24 شباط عام 2022 بدون استعداد عسكري وبدعم عسكري بسيط!

على الرغم من التهديدات الروسية شبه اليومية الرسمية وغير الرسمية لدول مثل بولندا ودول بحر البلطيق, الا ان هناك سبب يمنع الروس من غزو تلك الدول وهو انها جزء من تكتل الناتو العسكري, لو كانت أوكرانيا جزء حقيقي من الناتو بالتأكيد لفكر بوتن كثيراً قبل ان يبدأ مسعاه لتوسيع مملكته لتشمل أراضي الدونباس الخصبة والمليئة بالثروات الباطنية التي أصبحت في قبضة المافيا المقربة من بوتن, لو لم تسلم أوكرانيا صواريخها بعيدة المدى لتعقدت حسابات "قيصر الكرملين" صبيحة يوم 24 من شباط عام 2022 عندما كان يظن ان قواته ستتنزه في مركز كييف على شارع الخريشاتيك قبل ان تقابل بالورود من الشعب الاوكراني المهزوم وتسقط الدولة الأوكرانية للابد

هناك طريقة واحدة مجربة للتفاوض مع النظام الروسي, فالطرف القوي دائما صوته اعلى, بل اكاد اجزم ان ملخص المقال هو ما قاله الكواكبي في كتابه الشهير طبائع الاستبداد: " المستبد يتجاوز الحد ما لم يرى حاجزا من حديد, فلو رأى الظالم على طرف المظلوم سيفا لما اقدم على الظلم"  

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022