د. أمين القاسم – القرم
"أرض هذه المدينة واسعة وغنية جدا، ولا يوجد شبيه لها على وجه الأرض إلا سهول حوران في سوريا...، نعم هذه البلاد مدهشة، مباركة، مزدهرة".
هذا ما قاله الرحالة التركي الشهير أولياء جلبي (1611-1682م) عن أرض بغجه سراي والتي زارها عام 1656م.
كلمة (بغجه) باللغة التركية والقرمية التترية تعني الحديقة أو البستان، وكلمة (سراي) القصر؛ فيكون المعنى: مدينةحديقة القصر، وتلفظ التسمية باللغتين الأوكرانية والروسية (باختشي سراي).
تقع مدينة بغجه سراي في وسط شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا في وادي نهر (تشوروق سو)، وقد أسس المسلمون القرميون على ضفاف هذا النهر عدة حواضر، منها مدينة (كيرك إير)، ومدينة (سالاتشيك)، ومدينة (إسكي يورت) .
أسسها الخان صاحب كراي الأول ابن الخان منكلي كراي الأول عام 1532م، ونقل عاصمته إليها، وقد كان هذا التاريخ معاصرا لحكم السلطان العثماني سليم القانوني (حكم من عام 1520-1566).
وبقيت بغجه سراي إلى عام 1783م عاصمة الخانية الإسلامية، والمدينة الأولى في شبه جزيرة القرم، وكانت المدينة مقرا لحكم حوالي أربعين خانا من عائلة كراي.
وفيها يقع قصر الخان مقر خانات القرم والذي بدأ ببنائه 1519م وتم إكماله عام 1551م، وبلغت مساحته 18 هكتار، واليوم بقي منه 4 هكتارات، والقصر الضخم مبني على الطراز التركي السلجوقي القرمي.
من مدينة بغجه سراي انطلقت جيوش الخان القرمي غازي كراي الثاني عام 1591م، ودخلت موسكو وأجبرت قيصرها على طلب الصلح ودفع الجزية.
لقد كان في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين أوج ازدهار وقوة المدينة، وكانت إحدى أهم حواضر الدولة العثمانية الإستراتيجية ومركزا علميا وتجاريا وسياسيا كبيرا.
مظاهر الحضارة
وحسب ما ذكر الرحالة والمؤرخون الروس والأتراك، فقد كان في المدينة أواسط القرن 17 الميلادي أكثر 2000 بيت كبير ذو طابقين وكذلك العديد من القصور، وحوت المدينة على 32 مسجدا ذات قباب ومنارات جميلة منها: مسجد "الخان صاحب كراي الجامع" وهو أشهرها، و"مسجد قباء"، ومسجد "سيفر غازي" وجامع "أورطا جمعة" ومسجد "تختالي الجامع".
ولم يبقى من هذه المساجد اليوم إلا أربعة مساجد، كما وانتشرت في المدينة الأضرحة المزخرفة والقبور ذات القباب للعديد من السلاطين والأمراء والعلماء، وقد عاش في المدينة النصارى أيضا إذ كان فيها كنيستين: واحدة أرمنية والثانية يونانية.
هذا بالإضافة إلى المقاهي التي تعبق برائحة القهوة، والتي كان عددها يربو على 17، وكذلك الخانات (الفنادق) للمسافرين، والتي وصل عددها إلى 7 خانا كبيرة، وعدد من الحمامات العامة وصل إلى أربع إضافة إلى سبل المياه الكثيرة لشرب المارة على الطريق، ولم يبقى من هذه الآثار من المقاهي والخانات والحمامات والسبل أي أثر.
ومما ذكره المؤرخون والرحالة أيضا أنه كان في المدينة 43 جسرا مبنية من الحجارة والخشب.
كما وأحاطت بالمدينة البساتين والحدائق الغناء الكبيرة، فقد وصل عددها إلى 26 حديقة تحوي الأشجار المثمرة، كالكمثرى والتفاح والكرز والمشمش والعنب والخوخ وغيرها، وكذلك الأشجار الغير مثمرة، ترويها مياه الينابيع والعيون العذبة والتي وصل عددها في المدينة وما حولها إلى 70 ينبوعا، وانتشرت في الحقول قطعان الغنم والبقر والخيول.
وكانت المدينة مركزا كبيرا للحرف اليدوية من النحاس والذهب والفضة وصناعة السيوف والأواني المعدنية ومركزا لدباغة وصناعة الجلود ومنتجاتها.
وانتشرت فيها عدة مدارس لتعليم القرآن والحديث والعلم الشرعي واللغة العربية وصل عددها -كما ذكر الرحالة التركي أوليا جلبي- إلى 17 مدرسة، أشهرها "مدرسة زينجيرليه"، وتعتبر أقدم مدرسة أو جامعة علمية في شرق أوروبا، بناها الخان منكلي كراي الأول عام 1500م، وتضم قاعات دراسية ومسكن للطلاب ومسجدا وحماما.
وقد خرّجت هذه المدينة العديد من العلماء والفقهاء والنحويين والقرّاء والشعراء والأطباء الذين دونوا إنتاجهم العلمي باللغة العربية والتركية العثمانية،مما ساهم في دفع مسيرة الحضارة الإسلامية.
ومن هذه المدينة انطلقت الحملات العسكرية لصد ومحاربة الروس والقوزاق الأوكران والبولنديين والليتوانيين.
كما وكانت هذه الخانية خط الدفاع الأول ضد الأطماع الروسية والبولندية في الأراضي الإسلامية، والتي كانت تحت السيادة العثمانية، وساندت خانية القرم الدولة العثمانية في أكثر من مناسبة.
في عام 1736م دخلتها القوات القيصرية الروسية بقيادة القائد خريستوفر مينيخ (1683-1767م)، وقام جنوده بحرق كامل المدينة ونهب ما فيها، ثم انسحبت منها، لتعود إليها وتدخل تحت السيطرة الروسية الكاملة عام 1783م.
وفي عام 1787م دخلت الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية مع قواتها مدينة بغجه سراي كرمز لتأكيد السيطرة الروسية الكاملة والقوية على أرض القرم، وقد أقامت في قصرها عدة أيام.
وفي عام 1854م حاول الأتراك استعادة المدينة من أيدي الروس في معركة قرب نهر ألما ولكنهم فشلوا، ورغم كل هذه المحن والمآسي وغيرها فإن سكانها المسلمين لم يتركوها، وبقيت عامرة بالقرميين التتار المسلمين إلى أن جاء تاريخ 18 مايو من عام 1944م حيث قام الشيوعيون (بطريقة وحشية) بتهجير كامل أهلها من مسلمي تتار القرم إلى مناطق بعيدة في الأورال ووسط آسيا.
وهكذا غابت شمس الحضارة الإسلامية عن هذه المدينة التاريخية، بعد أن كانت مركزا للعلوم والثقافة والحضارة، وأصبح حالها حال أخواتها من مدن الأندلس: قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة وغيرها، ولكن لم يرحل الإسلام عن هذه الأرض.
فيا ترى، فهل تعود "بغجه سراي" كمركز إشعاع حضاري لخدمة الإنسانية، كما هي اليوم بطبيعتها الجميلة الساحرة؟!.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
أوكرانيا برس
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022