تاريخ ومكانة المصحف الشريف في حياة تتار القرم المسلمين (صور)

تاريخ ومكانة المصحف الشريف في حياة تتار القرم المسلمين
القاسم: المصحف أثمن هدية في العادات والأعراف القرمية التترية
نسخة للطباعة2013.04.12

كتبها: د. أمين القاسم - القرم

ظل القرآن الكريم وعلى مدار قرون يشكل الحصانة الروحية والدعامة الأساسية للحفاظ على الهوية الإسلامية وثوابتها الدينية، وخاصة بالنسبة للشعوب الإسلامية غير العربية منها، ومن هذه الشعوب قبائل الترك، وتتار القرم.

ما يزال المصحف الشريف - حتى يومنا هذا - يعتبر في العادات والعرف القرمي التتري أثمن هدية، لذلك فإن أهل العروس يقدمونه كهدية إلى ابنتهم يوم زفافها، ويوصونها بالحفاظ عليه، وتتناقله النسوة من الجدة إلى الحفيدة الأكبر، وهكذا جيلا بعد جيل.

فما قصة المصحف الشريف مع تتار القرم؟

تعود قصة تتار القرم مع المصحف الشريف إلى وقت إعلان الإسلام دينا رسميا للبلاد أيام الخان بركة بن جوجي بن جنكيز خان (القبيلة الذهبية المغولية) في القرن 13م، ثم أيام حكم أسرة كراي التي أسسها الحاج كراي الأول الذي عام 1441م، إذ دخل المصحف الشريف مع انتشار قبائل الترك ودخول قادة وأمراء المغول الإسلام، وذلك في منطقة شمال البحر الأسود وشرق أوروبا.

وقد جاء في كتاب الرحالة العربي ابن بطوطة (1304-1377م) الذي زار بلاد القرم في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، واصفا اهتمام تتار القرم بالقرآن الكريم وترتيله: "وبعد الفراغ من الطعام قرأ القراء بالأصوات الحسان، ثم نصب منبر وصعده الواعظ، وجلس القراء بين يديه وخطب خطبة بليغة؛ وفي أثناء ذلك يكرر القراء آيات من القرآن بترجيع عجيب".

كما وتذكر الروايات التاريخية أنه في المسجد الجامع بمدينة يفباتوريا، الذي كانت تقرأ فيه الفرمانات العثمانية القادمة من اسطنبول باسم السلطان العثماني، كان محفوظا في مكتبته مصحف مخطوط كتب عليه تاريخ 1414م، أي قبل بناء المسجد بـ138 عاما، ولكن هذا المصحف فقد عام 1927م ليظهرفي أحد متاحف مدينة سان بطرسبورغ.

وبلغ من عناية مسلمي القرم بالقرآن وحفظه أن جعلوا في كل مسجد "منبر صغير"، وهو عبارة عن كرسي لقارئ القرآن، يقع في زاوية المسجد الجنوبية على يسار المصلي، مايزال موجودا في المساجد القرمية القديمة، يصعد عليه القارئ لكتاب الله، ويرتل القرآن الكريم أيام الجمع والأعياد والمناسبات.

ويذكر أن أقدم مخطوط للقرآن في القرم مازال موجودا إلى يومنا هذا يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي.

وقد كان لكل خان مصحفه الخاص به، الذي يخط ويسمى باسمه، كما وأن لكل خان من خانات القرم وأمراء وخواتين (سيدات الطبقة العالية لدى التتار والترك) وقف من هذه المصاحف للقراءة في مساجد الخانية، يكتب عليها اسم الخان أو الشخص الذي وهب هذا المصحف للمسجد، والدعاء له بالثواب الجزيل والبركة والصحة، ويذكر اسم الخطاط الذي خطه.

وفي المصاحف القديمة المخطوطة نجد الاهتمام والعناية والزخرفة والرسوم المتقنة للصفحتين الأوليتين، كعادة المصاحف العثمانية، تستخدم في تزينها أحيانا الخيوط والسوائل الذهبية والفضية والملونة، كما ولكل مصحف غلاف سميك من الجلد (جلد الغزال والماعز وغيرها).

ومن المصاحف المخطوطة الموجودة حاليا في قصر الخان في مدينة بغجه سراي بالقرم: مصحف الخان منكلي كراي بن الحاج كراي، ومصحف الخان سلامت كراي بن الخان الحاج سليم كراي، وغيرها.

هذا ويرجع تاريخ هذه المصاحف إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وعدد منها بأحجام متوسطة وكبيرة.

كما وتوجد العديد من المصاحف لخانات القرم موزعة في متاحف القرم (قصر الخان ومدرسة زنجرليه) ومتاحف أوكرانيا وروسيا.

وبعد اختراع المطابع، انتشرت المصاحف المطبوعة في القرم، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، وقد طبعت في مدينة سان بطرسبورغ (أول مرة طبع فيها المصحف عام 1787م)، أما في القرن التاسع عشر، فقد كانت أغلب المصاحف في القرم مطبوعة في مدينة قازان (لأول مرة طبعت فيها المصاحف عام 1848م)، وقسم منها طبع في اسطنبول (طبع فيها لأول مرة في القرن الثامن عشر).

اهتمام بالتفسير

ولم تقتصر عناية القرميين بالمصحف الشريف على تلاوته وطباعته والعناية به، بل شملت الاهتمام بتفسيره وشرحه والكتابة في علومه، ونذكر من المصنفات والعلماء الذين اهتموا بهذا الجانب وأبدعوا فيه:"الرسالة النووية في كشف الأسرار النارية" في تفسير سورة النور، لابراهيم بن عبد الله القريمي المشهور بـ"تاتار شيخ إبراهيم" شيخ الزاوية الخطوتية قرب آي صوفيا توفي سنة 1001هـ.

وأيضا محمد بن مصطفي حميد الدين الكفوي الحنفي الأقكرماني: تولى القضاء بمكة المكرمة، وتوفى بها سنة 1174هـ له حاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي في التفسير.

ومن العلماء أبو البقاء الكفوي (أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي) أحد قضاة الأحناف، ولّي القضاء في القدس وبغداد توفي عام 1684م في القدس، ومن أشهر كتبه "الكليات" معجم موسوعي نفيس معين على تفسير معاني آيات القرآن العظيم، وقد أصدرته مؤسسة الرسالة في حوالي 1300 صفحة. وضخامة حجمه من ناحية، وتنوع موضوعاته من ناحية أخرى يلحقانه بالموسوعات الفكرية العامة. وغيرها من الكتب والعلماء الذين ضلعوا في تفسير وشرح كلمات وآيات القرآن العظيم.

يذكر أن  تتار القرم يطلقون على المصحف تسميات أخرى منها : كلام شريف، مصحف شريف، القرآن العظيم، كتاب الله، الكتاب.

ولاهتمام تتار القرم بالمصحف كانت تنتشر في بيوت القرميين "طاولة أو كرسي القرآن" مصنوعة من أنواع الخشب المختلفة، مزخرفة بالألوان الزاهية، مطعمة بالصدف والحجارة الجميلة، يوضع عليها المصحف للقراءة.

ومن عاداتهم صنع مايسمى "لبس للمصحف" أو "غطاء مطرز للمصحف" أو " بيت للمصحف"، يخاط من القماش، وأحيانا يطرز ويزخرف ويكون على مقياس المصحف، وذلك لحفظه وتعليقه في مكان مرتفع تكريما لكلام الله وبعيدا عن أيدي الأطفال وأدوات المنزل.

بقي أن نذكر أنه وقبل محنة تهجير تتار القرم في القرن العشرين عام 1944م، كان في القرم عدد من الحفاظ للقرآن الكريم من التتار، وكانت ظاهرة عادية في المجتمع القرمي، والكثير من العائلات التي هجرت من القرم حملت معها مصاحفها قبل ترحيلها بالقطارات إلى وسط آسيا ومناطق مختلفة من روسيا، وعادت به مع مطلع التسعينات ليكون شاهدا على محنة اضطهادهم وتشريدهم الصعبة.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

أوكرانيا برس

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022