في ساعة متأخرة من ليل الأحد – الإثنين المنصرم ، وقبل أن يتأكد نهائياً فوز فلاديمير زيلينسكي في الإنتخابات الرئاسية الأوكرانية ، توجه الرجل إلى شعوب البلدان ، التي كانت تشكل الإتحاد السوفياتي السابق ، برسالة مختصرة جداً قال فيها " أنظروا إلينا ، كل شيئ ممكن" .
ووجد كتبة الكرملين في هذه الرسالة "عدوانية مفرطة "، إذ تتوجه إلى شعوب هذه البلدان من "فوق رؤوس قادتها"، واعتبروها سبباً كافياً لكي يمتنع الرئيس الروسي عن تهنئة الرئيس الجديد "قبل تسلمه رسمياً"، حسب رئيس تحرير صحيفة "NG" ( "الصحيفة المستقلة"، على قولها) .
تلقفت الرسالة هذه صحيفة الكرملين "vz" ، وأدركت ما تنطوي عليه من أبعاد عميقة ، خاصة بالنسبة لروسيا ، وتساءلت ما إن كان من الممكن أن يظهر في كلٍ من بلدان الإتحاد السوفياتي السابق "زيلينسكي الخاص بها". وقالت بأن زيلينسكي ليس وحده ، بل كل الساسة الأوكرانيين يعتبرون، ومنذ زمن بعيد، أنهم جديرون أن يكونوا القدوة لجيرانهم. وترى أن الرسالة تعني دعوة الجميع للتعلم من أوكرانيا كيف يتم تبادل السلطة، وكيف يمكن لشخص ليس من النخبة السياسية أن يصبح رئيساً، وكيف يمكن للعامة من الناس أن تعبر، من خلال الإنتخابات، عن استيائها من النخبة الحاكمة. وهي تعتبر أن الرسالة كأنها تقول "إفعلوا مثلنا، وسوف تكونون غداً، إن لم يكن في أوروبا، فعلى الطريق إليها، أي اقطعوا مع ماضيكم الآسيوي السوفياتي، والتحقوا بالبلدان المتقدمة".
ليس زيلينسكي وحده من يقول بذلك، بل كل السياسيين ذوي التوجه الغربي في الفضاء ما بعد السوفياتي: من المعارضة الروسية الراديكالية "الديموقراطية" (الصحيفة لا تعترف بديمقراطية المعارضة) إلى أخصام لوكاشينكو ونزاربايف من البيلوروس والكازاخيين. وهي تقول بأن هؤلاء يرون أن جميع المشاكل ناجمة عن عدم تداول السلطة ، وأن الأشخاص أنفسهم يستمرون في الحكم 20 – 30 عاماً، من دون أن يتبدل شيئ ، او يتوقف على الناس أمر. وينبغي أن تكون الأمور كما في أوروبا ، أو على الأقل كما في أوكرانيا ، حيث يتبدل الرؤساء بالإنتخابات، وتتبادل الأحزاب السلطة ، تقول الصحيفة ساخرة من كل أولئك المعارضين ، الذين "سوف ينحتون من زيلينسكي "قدوة" لكل الفضاء ما بعد السوفياتي" .
من جانبه يرى المؤرخ الروسي الكبير المعارض أندريه زوبوف في موقعه على الفيسبوك ، أن الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، والإنتقال السلمي الديمقراطي للسلطة، هو إنجاز حضاري لم يعرفه من قبل الفضاء التسلطي السوفياتي. ويرى في سلوك الرئيس الأوكراني الحالي بيترو بوروشنكو ، الذي اعترف بالخسارة قبل صدور النتائج النهائية وهنأ الرئيس المنتخب ووعده بالمساعدة في مهمته ، وأن يكون في الوقت عينه معارضاً حازماً له، إنتصاراً جديداً على عدوه بوتين. ويقول أن هذا الإنتصار هو الأشد تدميراً لطاغية الكرملين، وقد أضيف إلى الإنتصار العسكري والدبلوماسي، الذي حققه باراشنكو خلال رئاسته بإقناع العالم بعدم السماح لبوتين بتمزيق أوكرانيا، وعدم تكرار مؤامرة ميونيخ من جديد، بعد مرور ثلاثة أرباع القرن على ارتكابها.
ويعتبر زوبوف أن انتصار بوروشينكو في هذه الانتخابات لم يكن ليدهش الروس ، الذين اعتادوا على مثل هذه الإنتصارات للسلطة القائمة لديهم ، واعتادوا على توريث المناصب وتبادلها بين أفرادها.
أما خسارة بوروشينكو في صراع نزيه والتخلي النبيل للرئيس الخاسر، هو الأمر الجديد في الفضاء ما بعد السوفياتي، والذي جعل بوتين ولوكاشينكو ونزاربايف وراخمونوف ( ديكتاتور طاجكستان) يبدون ديناصورات التسلطية السوفياتية، الذين تجاوزهم الزمن، حسب زوبوف.
ويعتبر أن بوروشينكو تمكن في 21 الشهر الجاري (يوم الإنتخابات ) من تدمير صورة بوتين "الزعيم القومي"، الذي سلخ القرم عن أوكرانيا واحتل قسماً من الدونباس. وحقق انتصاره هذا على بوتين، ليس في ساحة الوغى، ولا في المفاوضات الدبلوماسية، بل في أقلام الإقتراع، وهو ما سوف يتعلم منه الشعب الروسي بأن البشر في الفضاء ما بعد السوفياتي لم يخلقوا ليكونوا دمى للسلطة، بل بوسعهم هم أن يحددوا رؤساءهم، وهم ملزمون بذلك، حسب زوبوف .
وتحت عنوان "ما الذي تعلمه أوكرانيا لروسيا؟" عقدت إذاعة "الحرة" الناطقة بالروسية ندوة ضمت إختصاصيين من الروس والاوكرانيين، قدمت لها بالقول أن معارضي النظام في روسيا يرحبون بالعملية الشفافة للإنتخابات الأوكرانية، وتوقعوا بان لا تشهد بلادهم مثل هذه العملية تحت حكم فلاديمير بوتين التسلطي. وتقول بأن الكثيرين يتوقعون لروسيا المزيد من الإغراق في النزعة المحافظة للنظام السياسي ، وتشديد القمع.
أما موقع "kasparov" المعارض فقد نقل عن السكرتير السابق لاتحاد الصحافيين الروس والمدون المعروف إيغور ياكوفنكو، تعليقاً على الحدث الأوكراني تحت عنوان "دروس أوكرانية لروسيا وأوكرانيا وسواهما". يقول ياكوفنكو أن روسيا البوتينية، ومنذ ست سنوات، تعيش أوكرانيا، بل وتتنفسها وتشمها وتحاول عضها وقضم أجزاء من بدنها. والأمر الوحيد، الذي لا تفعله روسيا البوتينية هو محاولة فهم أوكرانيا هذه ، ما الذي يحدث لها، ما هو هذا البلد ومن هم هؤلاء الناس الذين يعيشون فيها. لقد اختفت روسيا البوتينية في الفترة الفاصلة بين انتهاء عملية تسجيل المرشحين للإنتخابات الأوكرانية ويوم الانتخاب نفسه، ذابت روسيا في أوكرانيا. لكنها، من جديد، لم تفهم شيئاً من تلك الأحداث، التي كان يمكن أن تكون درساً لها، لو كان في قيادة روسيا البوتينية و"نخبتها" أحد ما يريد التعلم ويرغب به.
ويستنتج هذا المدون خمسة دروس من الحدث الأوكراني ، يأتي في طليعتها درس" نبل الخاسر"، حيث ينوه بسلوك الرئيس الخاسر بيتر باراشنكو، الذي غادر"كما يغادر كبار الساسة العالميين والأوروبيين"، وقبل بتحديات منافسه غير التقليدية باجراء المناظرة في ملعب كرة قدم ، وإجراء فحوص طبية للكشف عن الإدمان على الكحول والمخدرات.
ويقول ياكوفنكو أن الرئيس بوروشينكو خيب آمال "ساكني التلفرة الروسية الدائمين"، الذين كانوا يتوقعون منه أن يتمترس بموقعه ولا يغادره ، وأن يفتعل الاستفزازات ويلجأ إلى الحرب، بل وأن يدبر قتل منافسه زيلينسكي. لكن شيئاً من كل ذلك لم يحدث، بل قام باراشنكو بتهنئة الرئيس المنتخب بفوزه، قبل الإنتهاء من فرز الأصوات، ووعده بمعارضة صلبة ومساعدته في الوقت عينه في مهامه الجديدة.
أما الدرس الثاني ، حسب المدون، فهو فشل الإستفزازات الروسية وسياسة "فبركة التهم"، حيث يذكر الرجل كيف جرت محاولة اتهام الرئيس الفائز بتلقي التمويل من رجالات بوتين، واتهام زوجته بالتعامل مع الانفصاليين في شرق أوكرانيا. لكن هذه المحاولات فشلت، وفشل معها سيل الاستفزازات والكذب اليومي ، الذي ينهال على الأوكرانيين من التلفزة الروسية، ولم يحصل مرشح "العالم الروسي" يوري بويكو سوى على 11% من أصوات المقترعين في الدورة الأولى للإنتخابات.
والدرس الأخير من الإنتخابات الأوكرانية، الذي توقف عنده هذا المدون، هو الآمال المعقودة على التغيير وضرورة الدفاع المستمر عن الحرية. فهو يرى أن كل جيل جديد في أي بلد ديموقراطي، هو بمثابة شعب جديد يطالب بالتغيير، وبصيانة الحرية، التي ليست، برأيه، معطى ثابت ، بل هي قيمة متغيرة تتطلب الدفاع المستمر عنها.
المقال يُعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر عن "أوكرانيا برس"
نقلا عن صحيفة المدن
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022