إثر الحرب الروسية – الجورجية في 2008، أيقن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ألا رادعاً يحول دون عنفه خارج أراضيه. ولكن حين وقوع هذه الحرب، ودوامها أياماً قليلة بين السابع والثاني عشر من آب (أغسطس) 2008، بدا أنها ثانوية ولا يعتد بها. ومرت عشر سنوات على الحرب التي دارت في أطراف القارة الأوروبية.
ويوماً بعد يوم، يرجح وزنها في فهم مسار التطور السياسي البوتيني والتدخلات العسكرية الروسية التي تلت، في أوكرانيا وسورية على حد سواء. فهي ساهمت في صوغ الرؤية البوتينية إلى العلاقات الدولية. وخلص الرئيس الروسي من الحرب هذه إلى أن الغرب ضعيف وهو في طور الأفول، وأن موسكو قادرة على التوسل بالقوة وانتهاك القانون الدولي، وتحقيق مكاسب من دون تبعات تترتب على ما تقدم عليه.
وجاء اجتياح جورجيا إثر عشرات السنوات من دعم روسي عسكري، مالي وسياسي، إلى انفصاليي أبخازيا وجنوب أوسيتيا، ومن توزيع جوازات سفر روسية في هذين الإقليمين، وإدارة القوات المسلحة الانفصالية إدارةَ الحروب الهجينة. والاجتياح هذا هو أول عملية عسكرية تبادر إليها روسيا الاتحادية خارج حدودها. وفي الإمكان القول، أنها الأولى منذ اجتياح أفغانستان في 1979.
ولكن على خلاف الحملة على أفغانستان وهزائم الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، ترى روسيا أن اجتياح جورجيا تكلل بنصر عسكري وسياسي وجيو - استراتيجي. والحق يقال كان هذا النصر سياسياً أكثر مما هو نصر عسكري نتيجة خسارة روسيا عدداً لا يستهان به من المقاتلات الجوية والجنود في خمسة أيام من قتال خصم أضعف. وفي الداخل الروسي، بلغت نسبة تأييد بوتين ذروة غير مسبوقة، في وقت تشرّب المجتمع الدولي القواعد الجديدة وصدع بها، على رغم إدانة الاجتياح الروسي. وحازت موسكو حق «نقض» توسع الناتو في الحيز السوفياتي السابق.
ولم تفرض عقوبات على موسكو جزاء هذا الاجتياح، بل كافأها الأوروبيون والأميركيون حين عرضوا عليها الحوار: بعد أشهر قليلة على النزاع، بادر الأميركيون إلى سياسة «إعادة الإطلاق» Reset [مبادرة إدارة أوباما إلى تحسين العلاقات بروسيا والتعاون معها]، وعرض عليها الأوروبيون «شراكة من أجل التحديث». وفي سبيل التستر على عجزه عن الحؤول دون تغيير حدود دولية في دولة أوروبية للمرة الأولى منذ 1945، انساق المجتمع الدولي وراء البروبغندا الروسية الجديدة، وهذه رمت إلى بث الشكوك في الحوادث، ومحو الفصل بين الوقائع والكذب.
وبرزت سردية ملتبسة تعزو الحرب إلى استفزاز روسي وتهور تبليسي، وتساو بين الاجتياح الروسي وما تسميه الخطأ الجورجي، أي فتح النار على مواقع الانفصاليين في ليلة السابع إلى الثامن من آب في وقت كانت مئات المدرعات والدبابات الروسية تجاوزت الحدود الدولية بين الدولتين.
وتعود هذه النسخة من الحوادث في شطر منها إلى خلاصة تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي. ويبدو اليوم، إثر إماطة اللثام عما جرى في أوكرانيا (تدخل قوات روسية غير نظامية متنكرة في زي «انفصاليين محليين» ونقل مكثف للسلاح المتطور وبث أخبار كاذبة على مستوى «صناعي») أن هذا التقرير هو مرآة إرادة سياسية ترمي إلى تقويض أهمية ما جرى لتفادي مترتباته على الغرب. وفي وقت لم يتردد الاتحاد الأوروبي في إدانة عدم احترام وحدة أراضي جورجيا، رفض استخدام في وثائقه كلمة «احتلال» روسي أو «تطهير عرقي» لتفادي إزعاج موسكو.
وخلصت موسكو من هذه الأزمة إلى عدد من الاستنتاجات توسلت بها حين صاغت استراتيجيتها في أوكرانيا وفي سورية وفي مواجهة الغرب على نطاق أوسع. فبوتين أدرك أن شعبيته في الداخل واستقرار نظامه مرتبطان بشن حرب، وأن في الإمكان إلقاء لائمة المصاعب الاقتصادية أو الاجتماعية على «الأعداء الذين يحاصرون الوطن ويتربصون به». وضاعفت روسيا مساعي تحديث وسائلها العسكرية فرفعت دورياً النفقات الدفاعية، ولجأت إلى قوة البروبغندا لتبديد الحدود بين الواقع والكذب، وليس لإقناع العالم بصواب موقفها.
وأدرك سيد الكرملين أن ثمن أعماله الأحادية وانتهاكه القانون الدولي ليست باهظة قياساً إلى المكاسب الذي يجنيها وتشريع طموحاته الاستراتيجية. وهو أدرك أن أوجه الشبه كبيرة بين العلاقات الدولية وشريعة الغاب، وفيها كلمة الأقوى ترجح. ولكن الأخطر هو ما يترتب على حدسه بضعف الغرب وعدم رغبته في الذود عن قيم التزمها طوال عقود. وولد من استنتاجات حرب جورجيا استراتيجيات روسية أدت إلى قضم القرم، والحرب في شرق أوكرانيا، وعمليات التطهير العرقي العنيفة ضد معارضي النظام السوري في الغوطة وحلب.
* الوزير السابق للاندماج الأوروبي في جورجيا، باحث، أستاذ جامعي، عن «لو موند» الفرنسية، 13/8/2018، إعداد منال نحاس
نقلا عن صحيفة الحياة
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022