في الوقت الذي عادت فيه التوترات للتصاعد من جديد في أوكرانيا بدأ دبلوماسيون مخضرمون يفكرون بهدوء في وسيلة للخروج من أسوأ أزمة تشهدها العلاقات بين الشرق والغرب منذ نهاية الحرب الباردة.
وربما يبدو التوقيت سيئا لتصور بنية أمنية معدلة لأوروبا في وقت يتعرض فيه وقف اطلاق النار الهش في شرق أوكرانيا للانتهاك يوميا ما يزيد مخاطر نشوب حرب باردة جديدة.
وقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي ثلاث موجات من العقوبات على موسكو بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم وتأييد الانفصاليين المؤيدين لروسيا في جنوب شرق أوكرانيا.
ومع ذلك ورغم انتقادات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللاذعة للغرب فلا روسيا ولا أوروبا لها مصلحة في استمرار مواجهة طويلة الأمد ألحقت بالفعل الضرر باقتصاد الجانبين وربما تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في شرق أوروبا.
ولهذا لجأ حكماء مثل السفير الألماني السابق فولفجانج ايشنجر رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن وايجور يورجنز رئيس معهد التنمية المعاصرة في موسكو المقرب من رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف للوسائل الدبلوماسية بحثا عن مخرج ممكن.
ورغم أن ايشنجر يصف مسلك روسيا في أوكرانيا بأنه غير مقبول ويؤيد العقوبات فهو يعتقد أن تدعيم منظمة الامن والتعاون في أوروبا قد يمثل أداة لتجاوز الأزمة.
وفي الأجل القصير يريد ايشنجر تشكيل مجموعة اتصال دولية تتألف من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والحكومة الاوكرانية للاشراف على تنفيذ اتفاقات وقف اطلاق النار الموقعة في مينسك في سبتمبر ايلول بين أوكرانيا والمتمردين الموالين لروسيا.
أما في الأجل الأطول فهو يقول إن صربيا الرئيس التالي لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في 2015 وألمانيا المرشحة لرئاسة المنظمة في 2016 يجب أن تعملان معا لتطوير ميثاق جديد للأمن الاوروبي.
ويقول ايشنجر "يجب أن يكون الهدف تدعيم القواعد والمؤسسات بما في ذلك المنظمة لمراجعة مشروعات مثل اقتراح ميدفيديف عام 2008لمعاهدة أمنية."
وكان ميدفيديف طرح اقتراحه قبل نشوب حرب قصيرة بين روسيا وجورجيا ويقضي بأنه لا يحق لدولة أو تحالف يعمل في منطقة أوروبا والمحيط الأطلسي أن يعزز أمنه على حساب الدول والمؤسسات الأخرى.
وقال يورجنز الذي انتقد سياسة بوتين في أوكرانيا إن مبادرة ميدفيديف تستحق استجابة بناءة أكثر من الاستجابة التي تلقتها.
وكان الغرب استبعد الاقتراح في حينه لانه بدا محاولة مفضوحة لمنح روسيا حق الاعتراض على قرارات حلف شمال الاطلسي مثل السماح بدخول أعضاء جدد أو نشر دفاعات صاروخية أمريكية في أوروبا.
ومنذ ذلك الحين سار بوتين في الطريق المعاكس بالقيام بعمل عسكري منفرد في القرم وإقامة اتحاد أوروبي اسيوي يضم روسيا البيضاء وقازاخستان ليكون ثقلا موازيا للاتحاد الاوروبي.
والصراع في أوكرانيا هو صراع على اختيار كييف للاتجاه إلى الاتحاد الاوروبي بدلا من الانضمام للاتحاد الاوروبي الاسيوي.
وإذا كان بعض الحكماء يتطلعون الآن إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا فلأنها خرجت من عهد سابق للتنافس بين كتلتين لتتيح إطار عمل للحد من التنافس السياسي.
تأسست المنظمة عام 1975 في قمة أوروبية شاملة خلال فترة من الوفاق بين الشرق والغرب لتحتضن القواعد الأساسية لأمور السيادة والسلامة الاقليمية وحقوق الانسان والتعاون الاقتصادي.
ووضعت المنظمة إطار عمل للمحادثات أفضى إلى معاهدة للحد من القوات التقليدية في أوروبا واتخاذ اجراءات لبناء الثقة مثل الاخطار المسبق عن المناورات العسكرية والحق في ارسال مراقبين لحضورها.
وعندما انتهت الحرب الباردة وقعت 34 دولة ميثاق باريس من أجل أوروبا جديدة لتقنين الالتزامات بالسيادة والسلامة الاقليمية وكذلك الديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة القانون والحرية الاقتصادية.
وقال ايشنجر "نحتاج لخلق الظروف لتكرار ميثاق باريس لعام 1990" مشيرا إلى أن بوتين أشاد بالدور الايجابي الذي لعبته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في الأزمة الأوكرانية.
وتعهد الميثاق "بمستوى جديد في علاقاتنا الأمنية وفي الوقت نفسه الاحترام الكامل لحرية كل طرف في الاختيار في هذا الصدد." واعتبر الغرب ذلك قبولا من موسكو لحرية دول الكتلة السوفيتية السابقة في الانضمام لحلف شمال الاطلسي والاتحاد الاوروبي.
غير أنه بعد انضمام 12 دولة من وسط أوروبا إلى حلف الاطلسي سعى بوتين لرسم خط أحمر للحيلولة دون انضمام دول أخرى في الشرق إلى الحلف من بينها أوكرانيا وجورجيا.
وأثنى دبلوماسيون روس على فنلندا التي بقيت محايدة تتمتع بعلاقات ودية تجاه موسكو فيما يتعلق بالامن وفي الوقت نفسه واصلت عملية التكامل الاقتصادي مع اوروبا.
ويرى الغرب أن استيلاء موسكو عسكريا على القرم كان انتهاكا صارخا لمباديء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. أما موسكو فترى أنه استجابة لرغبات السكان الذين تغلب عليهم الأصول الروسية وخطوة لمنع وقوع قاعدتها البحرية في سيفاستوبول بالقرم في أيدي حلف الاطلسي.
ويذكر الصراع الأوكراني الحكومات بأهمية المنظمة وهي المنتدى الأمني الوحيد الذي يجمع كل دول أوروبا وأمريكا الشمالية. وفي أفضل الأحوال فإنها تخدم لتقريب وجهات النظر وإنقاذ ماء الوجه. أما في أسوأ الظروف فهي منتدى للحديث مصاب بالشلل لضرورة اتخاذ القرارات بالاجماع.
وتؤدي المنظمة مهام مثل مراقبة الانتخابات ووقف اطلاق النار لكن موسكم منعتها من دخول القرم.
وليس من الواضح كيف يمكن لميثاق أمني أوروبي معدل أن يحقق الاستقرار للدول الواقعة بين روسيا وحلف شمال الاطلسي. ويقر كثير من المسؤولين الغربيين في لقاءات خاصة بضياع القرم رغم أن حكوماتهم لا تقبل ذلك من الناحية الرسمية.
ومن المستبعد أن يتخلى الغرب رسميا عن السماح بضم أوكرانيا وجورجيا لحلف الاطلسي إذا وفت الدولتان بالمعايير وكانتا تريدان الانضمام. لكن مسؤولين غربيين كثيرين يقرون الان بأن ذلك اليوم مازال بعيدا وربما لا يأتي أبدا.
ويقول ايشنجر الذي عمل لأكثر من عشر سنوات مع هانز ديتريش جينشر وزير خارجية المانيا الغربية الذي دأب على الترويج لمنظمة الامن والتعاون في أوروبا رغم الشكوك الامريكية العميقة إن هناك سابقة للتعامل مع مثل هذه المشاكل.
ويضيف أن اتفاق تأسيس المنظمة "لم يسو الوضع النهائي لألمانيا ودول البلطيق. لكنه أوضح انه لا يمكن تسويته بالقوة."
الكاتب : بول تيلور
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022