الغرب وحدته أوكرانيا وتفرقه إسرائيل

لا شك ان الرفاهية الاقتصادية والحالة الديمقراطية التي تعيشها المجتمعات الغربية دفعت الى الامام فكرة الرسالة الإنسانية التي يجب ان يحملها الغرب حكوماتً وشعوباً, وعلى الرغم من تورط الكثير من الماضي الغربي بسجل مرتبط بمراحل الاستعمار وجرائم حرب وسرقات لموارد الشعوب الى ان الغرب اقنع شعوبه بشكل او باخر ان دور الغرب حضارياً يتغير بالفعل وانهم يحملون رسالة سامية وأن يد الغرب ممدودة لمساعدة كل مستضعف ولمحاربة كل طاغية

الغزو الروسي

وعلى الرغم من ان الماضي القريب لا يزال يحمل بصمات ما حصل في العراق وغيرها الا ان الحكومات الغربية بدأت تتنصل من تلك الحرب وما يشابهها شيئاً فشيئاً عن طريق انسحاب كثير من الدول من العراق تدريجياً والاعتراف الضمني ان ما حصل لم يكن امرا جيداً وان الغرب لن يقوم بدعم حروب مشابهة! بقيت هذه التصريحات ضمن الحيز النظري حتى بدأ الغزو الروسي على أوكرانيا, حينها وجد الغرب نفسه امام فرصة حقيقية ليظهر الوجه الجديد الذي وعد العالم به! وجه يقف بقوة وبحزم ضد العدوان الروسي على أوكرانيا
وعلى العكس مما توقعت روسيا بأن الغرب سوف ينقسم وانه لن يواجه العدوان الروسي على أوكرانيا فأن ما حصل هو ما لم يكن متوقعاً! توحدت اغلب الحكومات واغلب الأحزاب حتى تلك التي على اطراف النقيض وقامت  بتسليح أوكرانيا لكن الأهم كان الرسالة الإنسانية! لقد بعث الغرب للشعب الأوكراني رسالة إنسانية واضحة مفادها انهم ليسوا وحدهم بل اكثر من ذلك كان الدعم الشعبي الأوربي الذي طالب حكوماته بتوفير كل وسائل الدعم سواء للاوكران في حربهم مع الاحتلال او للاجئين الفارين منهم من ويلات هذه الحرب.
التغطية الإعلامية والسياسية كانت أيضا قوية وهناك كان دعم واضح ان العالم لم يعد كما كان! لم يعد العالم غير مكترث بمصائب الغير! هناك ضغط كبير على الشركات والمؤسسات العاملة مع روسيا ان توقف تعاملها فالأمر بحسب الرسالة الغربية يتعدى المصالح الاقتصادية, الموقف الإنساني اهم بكثير.

هذه الحالة من التوحد الإنساني اعادت للأذهان دور الغرب في إيقاف المجازر في البلقان وبدأ وكأن أمريكا التي وعدت بأغلاق معتقل غوانتنامو وبدل من ان تغلقه على الأقل فتحت الأبواب للمفتشين مع وعود بتحسين ظروف المعتقلين وكذلك تقليل التواجد الأمريكي في العراق مع الانسحاب من أفغانستان مع ضغط على حكومات الصين وغيرها لإيقاف المجازر والانتهاكات في حق الأقليات, بدا وكأن العالم بالفعل تغير, وان هناك حالة من التحسن النسبي في العلاقات الخارجية تقوم على مبدأ احترام حقوق الانسان ولو بشكل محدود
هذه الحالة أيضا أعطت الغرب قوة سياسية واقتصادية لان الكثير من الأنظمة في العالم كانت تفضل ان تكون موجودة في معسكر من يدافع عن حقوق الانسان مما بدأ بتشكيل عزلة نسبية لدول مثل روسيا وايران وبشكل اقل الصين بسبب سجلها في مجال حقوق الانسان! الرسالة كانت ان العالم اقتصاديا لم يعد كما كان! ان لم تحترم حقوق الانسان سوف تتعرض للضغط السياسي والاقتصادي والعزلة

 بايدن كان يعيش افضل أيامه في مجال السياسة الخارجية! على عكس التخبط بين الحلفاء في عصر ترامب الذي كان يهدد حتى بحل الناتو في نفس الفترة التي كانت انجيلا ميركل تتحدث عن بدائل لحماية امن اوربا, فأن الصورة أصبحت معكوسة! الغرب متوحد بقيادة أمريكية والجبهة اقوى مما كانت عليه ابدا

إسرائيل تخلط الأوراق

مع بداية العملية العسكرية الإسرائيلية على غزة قررت أمريكا استغلال التوحد الغربي لتحويله لدعم إسرائيل, في البداية كانت الأمور تسير وكأن إسرائيل سوف تحظى بدعم شبيه بما حصلت عليه أوكرانيا لكن استمرار العملية العسكرية والزيادة الرهيبة في جرائم الحرب التي قام بها الجيش الإسرائيلي أصاب قسم كبير من المجتمع الأوربي بصدمة! فجأة أصبحت جبهة الغرب ليست هي الجبهة التي تحمي الضعيف وتحارب جرائم الحرب! بل هي الان تدعمها وتشارك فيها من خلال دعم العملية العسكرية في غزة التي لم يمضي يوما الا استهدفت مستشفى هنا أومسجداً هناك, كنيسة هنا, أومبنى تابع للأمم المتحدة هناك!
ما يعقد الموضوع اكثر هو التناقض الرهيب بين ما يحصل في أوكرانيا وما تفعله إسرائيل! الأوكران يدافعون عن ارضهم اما الإسرائيليين يهجمون على أراضي الغير للانتقام مما حصل في مستوطناتهم, بينما تسود صور الفرح في المناطق الأوكرانية التي يدخلها الجيش الاوكراني تنتشر صور الخراب والدمار ورائحة التهجير في المناطق التي يدخلها الجيش الإسرائيلي
وبينما ان الروس بالفعل يستخدمون الأوكران كدروع بشرية فأن نسبة إصابة الجيش الاوكراني للمدنيين ضئيلة جدا لو قورنت بالأهداف العسكرية على الرغم من ان الأسلحة الأوكرانية اقل دقة بكثير وعلى الرغم من ان الحرب كادت تصل الى عتبة السنة وتسعة اشهر واصابات الأطفال من قبل الجيش الاوكراني اقرب الى الصفر في المقابل فأن الجيش الإسرائيلي المسلح بأفضل أنواع الأسلحة وافضل أجهزة المخابرات, مع ذلك وفي مدة تتعدى الشهر بقليل وصل عدد ضحايا إسرائيل في غزة الى 12 ألف منهم 8 الاف من النساء والأطفال وهو رقم غير مسبوق!
ان التناقض الأخلاقي الرهيب بين الجيش الاوكراني والجيش الإسرائيلي سبب تناقضا اخراً وهو انه لو كانت الحالة الأوكرانية تشكل دعاية أخلاقية للرسالة الإنسانية الغربية فان أفعال الجيش الإسرائيلي مدمرة لهذه السمعة! وهي بلا شك شكلت وتشكل صدمة كبيرة امام المجتمع الغربي في حال وصلته حقيقة ما يحدث
على الصعيد السياسي على الرغم من ان اغلب القوى الغربية لا تزال تدعم إسرائيل الا ان وحدة الصف تتصدع بشكل اسرع من المتوقع! استقالات في الحكومة الامريكية, تلاها رسائل غاضبة من سفراء فرنسا لحكومتهم, أحزاب مختلفة في اوربا تطالب بإيقاف الجرائم من الطرف الإسرائيلي واصوات اعلى من اسبانيا وايرلندا تتحدث صراحة عن ادانة الحكومة الإسرائيلية, حتى كندا التي حرصت حكومتها على دعم إسرائيل خرج رئيس وزرائها ليحذر نتنياهو ان العالم يشاهد ما يفعله في تحذير ربما يكون الأخير قبل تغيير المواقف
 الدول غير الغربية التي كانت بالفعل تنظر الى الغرب على انه يحمل موقف انساني بشكل او باخر صدمت بان الغرب لا يزال يدعم جرائم صعب ان تتكرر بالحجم والبشاعة خاصة ما يخص استهداف الأطفال والنساء, المظاهرات في العواصم الغربية بدأت تتزايد وتطالب بوقف الجرائم, وان كانت ردة الفعل الأولية بإدانة تلك المظاهرات تبدو انها قد تخدم توحيد الصف لكنها في الحقيقة سوف تزيد الشرخ بشكل كبير في المجتمع الأوربي الذي بات قسم كبير منه يعلم ان الغرب ممكن حتى ولو لحد ما تجاوز قيمه الداعية لحق التعبير عن الرأي في حال تضرر مصالح الحليفة إسرائيل, مع العلم ان حتى الروس في أوربا الداعمين للعدوان الروسي على أوكرانيا كانوا يحظون بحرية اكبر بكثير من هؤلاء الان الذين يطالبون بوقف جرائم الحرب في غزة, لذلك فأن محاولة شيطنة من يقف موقفا إنسانيا مع غزة لن تزيد إلا الشرخ بشكل اكبر في المجتمع الأوربي لتضعه امام ازمة إنسانية حقيقية وليتم طرح السؤال بجدية: ما هي القيم الأخلاقية والإنسانية التي يتمتع بها الغرب اذا؟

بارقة أمل

مع ذلك فأن الوضع حقيقة ليس بهذا السوء, هناك امل كبير ان يتغير جزء من الموقف الأوربي نحو موقف صادق مع نفسه يحترم القيم التي يحملها ويحارب ضد من يظلم ويتجبر, فكثير من المؤسسات والافراد ابدوا ليس فقط تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني بل بدؤوا العمل المنهجي المؤسساتي لتغيير الواقع الحالي, سواء عن طريق التظاهر لإيصال الصوت او العمل الإعلامي الموازي كي يعرف الناس اكثر ماذا يحدث في غزة بل ابعد من ذلك عدد كبير من المحامين والجمعيات يقومون برفع القضايا ضد حكومة إسرائيل للضغط عليها, اذا بالفعل توجد قيم واخلاق وإنسانية عند الشعوب الغربية لو وصلتها الصورة الصحيحة سوف تشهد دعم شعبي ليس بالقليل

الخلاصة
على الغرب ان يقف وقفة صادقة مع نفسه, فحكومة نتنياهو المتطرفة برسالتها الاجرامية ووعدها لاهالي غزة بمصير "العماليق" من تقتيل لا يمكن ان يكون حجر أساس يبنى عليه المشروع الغربي الذي يدعي دعمه للقيم الإنسانية! حان الوقت للغرب ان يكون صادقاً مع نفسه ويدرك انه كما ان حقوق الأوكران تنتهك كذلك هو حال الشعب الفلسطيني الذي عانى ويعاني لسنين من التقتيل والتهجير والحصار فالمعسكر المضاد يستفيد جدا مما فعلته إسرائيل للخروج من عزلته وإظهار الغرب على انه غير صادق في رسالته, الامل كل الامل في الشعوب الاوربية نفسها في الضغط على حكوماتها ليكونوا متواجدين على الطرف الصحيح من المعادلة وليس طرف الجزارين ومجرمي الحروب.   

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)