بذلت وزارة الدفاع الروسية الغالي والنفيس من أجل معرض التسليح السنوي الخاص بها على تخوم موسكو في أغسطس/آب الماضي. فقد توافد وزراء الدفاع والزوَّار رفيعو المستوى من 41 دولة، ومنها دول بالشرق الأوسط، ليطالعوا أحدث ما توصَّلت إليه التكنولوجيا، ويشهدوا استعراضات الرصاص الحي، وتمايل راقصات الباليه أعلى أبراج الدبَّابات، والإعلان التشويقي لفيلم عن عملية إنقاذ الطيَّارين الروسي عام 2015 من خلف خطوط العدو في سوريا. وتزامن الحدث مع الأسبوع نفسه الذي لملمت فيه الولايات المتحدة فوضى الانسحاب من أفغانستان، ولذا بدا أن ثمَّة رسالة جلية: لقد عادت روسيا عودة كبرى على المسرح الدولي، وبالأخص في الشرق الأوسط.
معرض التسليح السنوي
لطالما استغلت روسيا تعثُّرات الولايات المتحدة والشكوك التي أصابت بعض حلفائها القدامى لإيجاد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط. بيد أن الخطر الذي تُشكِّله بالنسبة لنظام الأمن الإقليمي الأميركي في المنطقة أقل سوءا مما تشي به التحذيرات الأخيرة التي أطلقها محسوبون على إدارة ترامب مثل "جون بولتون" و"هِربِرت رَيموند ماكماستر"، مستشارَيْ الأمن القومي السابقَيْن. في الحقيقة، تفوق ظلال الطموحات الشامخة لموسكو حجم نفوذها الفعلي على الأرض، وعلى صُنَّاع القرار الأميركيين أن يتجنَّبوا تهويل قدرات روسيا في الشرق الأوسط في خضم سعيهم لتضميد جراح الانسحاب من أفغانستان وطمأنة الحلفاء وإعادة توجيه الحضور العسكري الأميركي نحو آسيا.
ظلٌّ لا شمس له
يُعَدُّ الدور الروسي في الشرق الأوسط ضخما بوجه من الوجوه. فقد نشرت موسكو قواتها المسلحة والمرتزقة الخاصة بها في البلدان التي مزَّقتها الحرب مثل سوريا وليبيا، لتُبرهن على جدارتها بملء فراغات القوة التي خلَّفتها واشنطن. واستخدم الكرملين أيضا وسائل شتى لإقحام نفسه في النسيج الإقليمي لشمال أفريقيا والشام والخليج؛ فهو يبيع السلاح لدول عربية مثل الجزائر ومصر والعراق، ويتعاون مع السعوديين تعاونا وثيقا في إدارة أسواق النفط العالمية عبر منظومة "أوبِك بلَس". وعلاوة على ذلك، يؤكِّد القادة الروس والإسرائيليون علاقات شعبَيْهم الوطيدة بينما يعملون خلف الستار لتجنُّب الاصطدام في سوريا.
تُدير موسكو دفة تلك الغزوات العسكرية والدبلوماسية برشاقة وبكُلفة زهيدة. فلا يقلق نظام الرئيس "فلاديمير بوتين" حيال خضوعه لرقابة برلمان مستقِل أو صحافة حرَّة، ما يعني أن السياسة الروسية ليست مُكبَّلة بمخاوف الاصطدام برد فعل داخلي أو بخروقات (حلفائها)* لحقوق الإنسان. وقد انجذب المستبدون العرب إلى السمة الأخيرة تحديدا، وهُم الذين طالما انزعجوا من معونات واشنطن المشروطة. وهُنا تُمثِّل ليبيا وسوريا نموذجيْن مثاليَّيْن على ذلك النهج الروسي والمزايا التي منحها؛ إذ أثبتا أن موسكو تتعامل مع اللاعبين الإقليميين والمحليين على فظاعاتهم مهما تخطَّت الحدود بالنسبة إلى الغرب، ولذا باتت موسكو اليوم وسيطا مهما في كلا الصراعَيْن الليبي والسوري.
بيد أن التأثير الإستراتيجي للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط متواضع جدا أكثر مما يفترض كثيرون. وإذا ما أمعنَّا النظر في غزوات الكرملين بالمنطقة، فسرعان ما ستظهر لنا إخفاقات وخيبات روسية سبَّبتها ما تحمله موسكو من عُدَّة سياسية محدودة، لا سيما في التعامل مع تعقيدات المشهد السياسي بالشرق الأوسط. ورغم ما أُغدِق عليهم من اهتمام روسي، فإن اللاعبين الإقليميين يتصرَّفون بالكاد باعتبارهم وكلاء طيِّعين لروسيا، حيث أظهروا قدرة مُدهِشة على تخييب آمالها، وهو نمط ما انفك صُنَّاع الإستراتيجية الغربية يتجاهلونه.
على سبيل المثال، في سوريا التي تُعَدُّ القطعة الأساسية في شطرنج عودة روسيا إلى الشرق الأوسط، تكرَّر إحباط قدرة روسيا على إملاء مُرادها على الأرض مرات ومرات. فقد تمثَّلت الأهداف الأصلية للتدخُّل العسكري الروسي بإبقاء "بشار الأسد" ونظامه في السلطة، واستعادة السيطرة على قلب سوريا، وهُما هدفان تحقَّقا بالفعل قبل نحو أربع سنوات ونيف. ومنذئذ والكرملين يتعثَّر بقدراته المحدودة كلَّما حاول استعادة بقية الأراضي الواقعة خارج سيطرة النظام اليوم، وكذلك حين حاول انتزاع رفع العقوبات وجلب الدعم المالي لإعادة الإعمار في دمشق، ناهيك بإخفاقه في وقف تغلغل دول قوية مثل تركيا والولايات المتحدة في شمال سوريا. ويُضاف إلى ذلك أن موسكو اضطرت للتعاطي مع استعداد نظام الأسد لضرب رعاته الأبرز، الروس والإيرانيين، بعضهم ببعض.
لم يحقق التدخُّل الروسي في ليبيا هو الآخر أهدافه كاملة. فقد نشرت موسكو مجموعة مرتزقة تابعة لها تُعرف باسم "فاغنر" لتقاتل بالوكالة لصالح أمير الحرب "خليفة حفتر"، الذي يتمركز في شرق ليبيا وعُدَّ وكيلا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في وقت سابق. لكن موسكو احتفظت بشكوكها دوما حيال القدرة العسكرية للزعيم الليبي وولائه لروسيا، ومن بعد منتصف العام الماضي حين وصلت القوات العسكرية التركية لتعزيز صفوف منافس حفتر المتمثل بالحكومة الليبية ذات الاعتراف الأممي (المتمركزة في الغرب)*، فإن روسيا تنازلت عن حملتها لشن هجوم على العاصمة طرابلس، واستعادت موقعها بخوض غمار المسار الدبلوماسي بدلا من ذلك.
ثمَّ باءت جهود روسيا لتعزيز نفوذها في بقية أنحاء المنطقة بفشل أشد وطأة. فلم تُبِد أيٌّ من الجزائر أو مصر استعدادا لخلق شراكة إستراتيجية دائمة مع موسكو أو منحها حقوق استخدام طويل الأمد لقواعدهما العسكرية ومنشآتهما البحرية، رُغم شرائهما كميات هائلة من السلاح الروسي. وبالمثل فإن التوغُّل التجاري الروسي في المنطقة هزيل بدرجة كبيرة، إذ إن الدولة الروسية اليوم، على عكس الاتحاد السوفيتي، لا باع لها في تمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية الضخمة، أما أهداف الشركات الروسية اليوم فهي أبسط بكثير: جني الأرباح. غير أن ما يُخرجه الروس من جُعبتهم لا يسعه أن ينافس ما في جُعبة الشركات الصينية أو الأميركية أو الأوروبية.
ويعكِس هذا النفوذ المحدود حقيقة أن أدوات السياسة الروسية غير ملائمة للاشتباك مع المُعضلات المُرهقة التي تواجه الشرق الأوسط، مثل الاستبداد والفساد وحاجة السُكَّان الشباب في معظمهم إلى الفرص الاقتصادية. ورغم أن الولايات المتحدة هي الأخرى لا تملك حلولا سحرية لتلك التحديات الموروثة جيلا بعد جيل، فإنها تبقَى على نهجها بالنظر إلى المنطقة من منظور أشمل. ففي ليبيا مثلا، لا يزال الليبيون يذكرون بتقدير دور واشنطن الداعم للمجتمع المدني والتعليم والإعلام الحر والحُكم المحلي بعد ثورة فبراير/شباط، وهو ما يناقض تركيز روسيا على السلاح والبنية التحتية والطاقة من أجل جني الأرباح، علاوة على اتهامات ارتكاب جرائم الحرب بواسطة مجموعة "فاغنر" وفقا لتقارير موثوقة من الأمم المتحدة.
هيمنة روسيا.. الحجم الحقيقي
حريٌّ بنا ألا نسهو عن قدرة الكرملين على ارتكاب الفظائع في تلك المنطقة المأزومة، بيد أن مصالح شتى الأطراف في الشرق الأوسط، ومنها الولايات المتحدة، سيُفيدها أن ننظر بعين فاحصة وتقييم واضح إلى التحديات التي يُمثِّلها النشاط الروسي، بدلا من الاستغراق في التحذير المذعور. وبالتحديد، على واشنطن أن تُدرِك أن موسكو ستُخفِق في مناحٍ عدة بسبب إمكانياتها المحدودة، وبسبب قدرة اللاعبين المحليين على إرباك خططها.
بوضع حدود القوة الروسية تلك في الاعتبار، ينبغي لنا أن نتجنَّب النظر إلى المنطقة بمنظور الحرب الباردة، فليست كل شاردة وواردة في الشرق الأوسط إما مكسبا وإما خسارة في حرب مفتوحة بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا. على سبيل المثال، على صناع القرار الأميركيين أن يكفُّوا عن مقارعة موسكو بتقديم مبيعات أسلحة أكثر سخاء لدول المنطقة، إذ باتت الدول العربية الاستبدادية متمرِّسة في استخدام العروض الروسية لانتزاع شروط أفضل في علاقاتها مع واشنطن، ومن ثمَّ يجب ألا تنطلي تلك اللعبة على الولايات المتحدة بعد الآن.
في الوقت ذاته، على صُنَّاع القرار الأميركيين ألا يتوانوا عن مواجهة النشاط الروسي في الشرق الأوسط بتدبير نشاطات مناوئة له باستخدام شتى الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، أو باستخدام الضغط غير الرسمي. على سبيل المثال، أوعز مسؤولون أميركيون إلى شركاء لهم في دولة "مالطا" بالتحفُّظ على شُحنة عُملات ورقية ليبية مزوَّرة بعد أن طبعتها موسكو لمساعدة حكومة حفتر في تمويل نفسها، وكذلك أدَّى أحد تحرُّكات الاستخبارات الأميركية إلى اعتقال اثنين من عملاء روسيا في العاصمة الليبية. هذا وأحيانا ما سلَّطت واشنطن الأضواء جهارا نهارا على جرائم روسيا، مثل الصور الاستخباراتية التي نشرتها قيادة القوات الأفريقية التابعة للولايات المتحدة ووثَّقت بها حشدا للمُعدِّات العسكرية الروسية في ليبيا، فأثبتت بذلك خرق موسكو لحظر تصدير السلاح الذي أقرَّته الأمم المتحدة.
ما من شك في أن موقع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الواسع قد اهتز بعد فضيحة الانسحاب من أفغانستان. بيد أن قواعد الوجود الأميركي في المنطقة تظل بلا نظير يضاهيها، فالنفوذ الأميركي السياسي والاقتصادي، وقوة واشنطن الناعمة والصلبة، وتطويعها للدبلوماسية متعددة الأطراف، وقيادتها لنظام دولي يستند إلى قواعد واضحة، يظل يعطيها اليد العُليا في مواجهة منافسيها، ولذا حريٌّ بصانع القرار الأميركي أن يضع أنظاره صوب تعزيز تلك المزايا، بدلا من تهويل الخطر الروسي (الذي دأبت عليه أصوات عديدة في واشنطن).
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
الجزيرة - Foreign Affairs
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022