بقلم: د. أمين القاسم - القرم
قضت الفرمانات السلطانية التي سادت علاقة مصر بتركيا أن يشترك جيش مصر البري والبحري في الحرب الروسية المعروفة "بحرب الشرق أو القرم أو سباستبول (سيفاستوبل)".
وقد سميت هذه الحرب بالاسم الأخير تذكارا لحصار هذه المدينة الحصينة، وهو حصار جدير بالذكر لما ترتب عليه من استيلاء جيوش المتحالفين فرنسا وإنكلترا عليها، وانتصارهم في هذه الحرب انتصارا حاسما.
ولما كان هذا الاشتراك لا يلم به في أيامنا هذه إلا النزر اليسير من المصريين، بدا لي أنه يكون من الخير والفائدة أن أبين قصة هذا الاشتراك الذي انتهى بصورة مشرفة تمام التشريف لجنودنا، وأن أنوه بالجهود العظيمة التي بذلتها مصر لمساعدة الدولة في هذه الحرب من سنة 1853 إلى سنة 1855م.
هذا ما بدأ به الأمير عمر طوسون كتابه "الجيش المصري في الحرب الروسية المعروفة بحرب القرم 1853 - 1855م" المطبوع في القاهرة والمنشور في جريدة "الأهرام " سنة 1932م، وسنعتمد عليه بشكل كبير في هذه المقالة.
في عام 1475 م دخل الاتراك القرم وأصبحت تابعة للإمبراطورية العثمانية، ولم تستمر ممتلكات القرم محصورة في دائرة حدود شبه الجزيرة، بل تخطتها وامتدت في أراضي الروس الجنوبية إلى أن تاخمت نفس مدينة موسكو فنشأ من ذلك توالي القتال مع تلك الدولة.
ومع تعاقب الأيام وكر السنين وهنت قواها أمام هذا العدو العاتي الجبار وانهزمت.
وفي سنة 1736م احتلت روسيا أول مرة شبه الجزيرة احتلالا موقوتا ثم استولت عليها نهائيا عام 1771م.
وقد نصت معاهدة سنة 1774م ومعاهدة 1779م أن ينتخب أهل القرم الخان انتخابا حرا، وأن يحكم بلاده وهو مستقل بدون أي تدخل من جانب الأتراك أو الروسيين، ولكن هذه المعاهدات لم تطبق وبقيت حبرا على ورق، وبعد أربع سنوات في العام 1783م أدمجت القرم في الإمبراطورية الروسية، واضطر آخر خان تولى الحكم في شبه الجزيرة وكان يسمى "بختي كيراي" إلى أن يبارحها، وتوفي عام 1810م في جزيرة مدللي التابع للإمبراطورية العثمانية.
وقد كانت روسيا تطمع بأملاك الدولة العثمانية وأصبحت تتحين الفرصة للإنقضاض على أراضيها، وفي عام 1853م زحفت جيوش القيصر الروسي نقولا الأول على إمارتي الدانوب (ملدافيا ورومانيا حاليا) فاشتعلت نيران هذه الحرب.
ولما رأى السلطان عبد المجيد أن شبح الحرب يتهدد سلامة الدولة طلب من عباس باشا الأول والي مصر أن يرسل نجدة من الجنود المصرية. فامتثل الوالي وأمر بتعبئة أسطول مكون من اثنتي عشر سفينة مزودة بـ 642 مدفعا و6850 جنديا بحريا بقيادة أمير البحر المصري حسن باشا الإسكندراني، وتعبئة جيش بري عدده حوالي 20 ألفا و72 مدفعا بقيادة الفريق سليم فتحي باشا، إضافة إلى النجدات اللاحقة والتي شملت عددا كبيرا من الجنود والسفن أيضا، وتبرع والي مصر عباس باشا وابنه بمبلغ كبير من المال إضافة إلى التبرعات من الموظفين وأهالي مصر.
وقد وصل الأسطول المصري إلى الآستانة بعد ثلاث أسابيع من مغادرته ميناء الإسكندرية في 14 أغسطس سنة 1853م، وقام السلطان عبد المجيد بزيارة الجيش المصري وتكريم قواده.
وبعد استراحة الجيش لعدة أيام تم تقسيمه إلى 3 ألوية، ووزعها على مناطق القتال على نهر الدانوب، وقد قام كل لواء من الألوية الثلاث بدوره في هذه الحرب وأبلى أحسن البلاء في جميع معاركها.
وهكذا أعلنت الدولة العثمانية الحرب على روسيا رسميا في 4 أكتوبر سنة 1853م، وفي 27 مارس سنة 1854م انضمت فرنسا وانجلترا إلى تركيا في الحرب ضد روسيا (ويذكر هنا أن الجيش الفرنسي المشارك في حرب القرم ومعركة سفاستوبل كان يحوي على ثلاث كتائب جزائرية).
ثم انتقلت الحرب إلى شبه جزيرة القرم، يقول الأمير عمر طوسون: "بدأ حصار سباستبول في 20 سبتمبر 1854م واستمر عاما، لأن الاستيلاء عليها تم في 8 سبتمبر سنة 1855م، وتم هزيمة الجيش الروسي بقيادة الجنرال منتشيكوف من قبل جنود الحلفاء (فرنسا وانكلترا) وجنود الجيش المصري، وذلك في معركة نهير (ألما) في القرم، وبعد هذا النصر وفي طريق عودة الأسطول المصري من القرم إلى الأستانة في شهر أكتوبر من نفس العام غرقت بارجتين مصريتين في البحر الأسود وفقدت البحرية المصرية 1920 بحارا، ونجى 130 رجل فقط، وقد ورد نبأ هذه الفاجعة الأليمة في جريدة "ذي اللستريتد لندن نيوز" بعددها الصادر بتاريخ 2 ديسمبر 1854م وجاء فيه: "وقد وقعت حوادث أخرى مريعة غرق فيها كثير من السفن، ولكن ليس بينها ماهو أفظع من حادثة البارجتين المصريتين العائدتين من القرم".
ويكمل الأمير عمر طوسون: "وفي خلال حصار سباستبول تقرر احتلال أوباتوريا (يفباتوريا) بجيش مؤلف من الأتراك والمصريين. وتم ذلك بالفعل في 9 فبراير سنة 1855م ،وكانت هذه المدينة تسمى قبل ضمها إلى روسيا (كوزلوه) ولكن الروس غيروا اسمها بقصد محو كل أثر إسلامي".
وهكذا انتقل قائد القواد المصرية اللواء سليم باشا فتحي إلى أوباتوريا مع القسم الأكبر من الجيش، وفي معاركها استشهد القائد المصري سليم باشا ودفن بجوار مسجدها الكبير (خان جامعي)، ومايزال قبره إلى الآن مع الأمير الألاي رستم بك والأمير الألاي علي بك، وإليكم ماجاء عن واقعة كوزلوه المذكورة في تقويم الوقائع العثماني سنة 1271هـ (1855م):
"في الساعة الحادية عشرة ونصف من صباح يوم السبت 29 جمادى الأولى سنة 1271هـ (17 فبراير سنة 1855م) هجم الروس بستة وثلاثين طابورا من البيادة وثمانية أليات من السواري وثمانين مدفعا هجوميا شديدا على العساكر الشاهانية الموجودة في كوزلوه، فشرعت العساكر الشاهانية أيضا معتمدة على عون الله ونصرته في مقابلتهم واستمرت الحرب نحو أربع ساعات ونصف.
ومع أن حصون هذا الطرف لم تكن قد أكملت على الوجه اللائق ولم تكن المدافع أيضا قد وضعت في مواضعها، إلا أن الجيش الروسي لم يتمكن من مواجهة شجاعة وبسالة جنود الحضرة الشاهانية المنصورة وثباتهم ومتانتهم، فتقهقر منهزما يائسا.
وقد ظهر أن خسارة العساكر الشاهانية وعساكر دولة فرنسا الفخيمة والأهالي في هذه الواقعة 103 أنفار قتلى و296 نفرا من الجرحى، ونال سليم باشا فريق الفرقة المصرية رستم بك أحد أمراء ألاياتها المشهود لهما بالشجاعة والبسالة شرف الشهادة.
وقد ترك الروس في ميدان القتال نحو 500 نفر من القتلى، عدا خسائره الجسيمة أثناء الموقعة وعدا ماتركه من الأشياء الكثيرة مثل أسلحة وشنط".
وفي 8 سبتمبر 1855م (1272هـ) سقطت مدينة سباستوبل بعد حصار طويل دام عاما وانهزم الروس، وفي هذا كتب المرحوم عبد الله باشا فكري يصف واقعة سباستبول وانتصار الأتراك والمصريين فيها على الروس، ويدل مجموع حروف كلا شطري مطلعها على تاريخ هذه الحرب بالسنين الهجرية بحساب الجمل.
وها هي نقلا عن كتاب (الآثار الفكرية) لابنه المغفور له أمين فكري باشا ص 83، ومنها:
(سنة 1272هـ) لقد جاء نصر الله وانشرح القلب *** لأن بفتح القرم هان لنا الصعب (سنة 1272هـ)
وقد ذلت الأعداء في كل جانب *** وضاق عليهم من فسيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط هولها *** يكاد يذوب الصخر والطارم العضب
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت *** كؤوس منون قصرت دونها السحب
تجرع أل الأصفر الموت أحمرا *** وللبيض في مسود هاماتهم نهب
وقد غرهم من قبل كثرة جيشهم *** فلم يغن عنهم ذلك الجيش والركب
وولو يجدّون الفرار بعسكر *** تحكم فيه القتل والأسر والسلب
فقد راعهم من آل عثمان دولة *** مجيدية دانت لها الترك والعرب
وفي سنة 1856عقد صلح بين الدولة العثمانية والروسية، ووضعت الحرب أوزارها وبعث السلطان عبد المجيد إلى والي مصر سعيد باشا فرمانا بالتركية يشكره على ماقدمه للدولة من المساعدة في هذه الحرب ويثني على بسالة الجنود المصريين فيها، ويعلمه بعقد الصلح بينه وبين روسيا، ومنح السلطان عددا من الجنود المصريين أوسمة على أعمالهم المجيدة.
نذكر هنا أن من نتائج هذا الصلح أن منعت روسيا من استخدام البحر الأسود لأغراض عسكرية، ومنحت كل من صربيا ورومانيا استقلال ذاتي تحت الدولة العثمانية، وتنازلت روسيا عن بعض الأراضي رومانيا، وأعيدت سيباستوبل لروسيا.
شهادات قواد الجيوش ببسالة الجنود المصريين في حرب القرم
كتب الأميرال الإنكليزي (سليد) الذي كان موظفا في تركيا واشترك في هذه الحرب وألف عنها تاريخا سماه (تركيا وحرب القرم) عن الجنود المصرية ما يلي: "هؤلاء هم الجنود الذين ألقي القبض عليهم بغلظة وانتزعوا من عقر دورهم وصياح أولادهم من حولهم يطن في آذانهم، وانتقلوا من ضفاف فروع النيل المضيئة بنور الشمس إلى غدران نهر الدانوب القاتمة. ومع هذا قد ظلوا إلى نهاية الحرب محتفظين ببسالتهم وقوة روحهم العسكرية. وأظهروا في كل وقت وآن جلدا وصبرا عند التعب والحرمان. غير أنه وياللحسرة والندم نصفهم ألقى آخر نظرة إلى مصر لدى سفره منها".
وجاء في خطاب كتبه الجنرال الفرنسي أوسمون إلى مسيو( آميه فانترينيه) بتاريخ 4 مايو، وهذا الأخير نشره في مؤلفه الذي سماه (سليمان باشا) قال فيه بصدد حرب القرم مايلي:
"لقد أتى في غضون حرب القرم قسم من أولئكم الجيوش المصرية المجيدة ليعاونونا في أعمال الحرب. ورأيت في أوباتوريا عندما كنت محافظا لها فرقة مصرية مؤلفة من زهاء 12 ألف جندي، وهي تكون جزءا من جيش عمر باشا، ورأيتها في المناورات ورأيتها في الحرب تقاتل إلى جنب فرقتين من الجيش التركي، وأنا أصرح أنها تفوق هاتين الفرقتين في كل أمر".
وجاء في جريدة (المنيتور) التي كانت تصدر في ذلك العهد: "وتعتبر الجنود المصرية أحسن جنود في أوباتوريا. وهذه كانت أيضا شهرتهم في حرب الدانوب".
أوكرانيا برس
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022