للمرة الأولى منذ ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا بالقوة (مارس/آذار 2014)، واندلاع الحرب في الشرق الأوكراني في حوض الدونباس (مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك)، يعود الاهتمام إلى الداخل الأوكراني كأولوية على حساب "التدخّل الروسي في البلاد"، وفقاً لأدبيات الحكومة الشرعية في كييف وخلفها المجتمع الدولي.
لم يكن أحد يتوقع أن تتحوّل الأمور في أوكرانيا، من المُطالبة بإعادة روسيا شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، إلى مطالبة السلطات الأوكرانية بتطبيق اتفاقيات مينسك والالتزام بالإصلاحات الداخلية، في غضون عامين فقط، في سيناريو يُحاكي السيناريو السوري، لناحية تحميل المعارضة مسؤولية عرقلة أي حلّ في الداخل السوري، بدلاً من تحميلها لروسيا. اليوم، تكاد المشكلة تصبح محصورة في كييف والسلطة الحاكمة بدلاً من انفصاليي الشرق وخلفهم روسيا أيضاً.
لقد أدى فشل الحكومة الأوكرانية في استعادة دونباس من أيدي الانفصاليين، وضعفها في مواجهة الروس لتطبيق اتفاقيات مينسك في هذا الشأن، إلى تفجّر الأوضاع الداخلية، بين يمينيين ويساريين، وبين أحزاب الائتلاف الحاكم نفسها، وخصوصاً أن الاقتصاد الأوكراني لم يجد سبلاً لمعالجة أزمته التي بدأت منذ ما قبل حرب دونباس، تحديداً في خريف عام 2013.
دفع هذا الأمر الرئيس بيترو بوروشينكو، إلى طرح أمر إقالة حكومة أرسيني ياتسينيوك. بالتأكيد يبحث بوروشينكو عن ضحية، ولا ضحية أفضل من ياتسينيوك، الذي تصادم معه مرات عدة، في تعايش قسري، أعقب انتفاضة الميدان شتاء 2013 ــ 2014.
بالنسبة إلى بوروشينكو، فإنه قادر على المواجهة، ولو أن البرلمان لا يواليه حالياً، إذ تكفيه الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، شرط التحالف مع الراديكاليين، الذين يدعون إلى تسوية بالقوة في الشرق الأوكراني. يستطيع بوروشينكو قطع الطريق على ياتسينيوك بهذه الخطوة، رغم أن الأخير سبقه في "الإقرار بفشله بما يتعلّق بتطبيق تطلّعات متظاهري الميدان"، لكن بوروشينكو يبقى متقدماً بسبب قدرته على نسج تحالفات أوسع من ياتسينيوك.
المواجهة بين بوروشينكو وياتسينيوك، تُعيد وجوهاً عدة إلى الواجهة، أبرزهم أحد رموز "الثورة البرتقالية" 2004 ــ 2005، يوليا تيموشينكو. تغيّرت أمور كثيرة في كييف في السنوات الـ12 الأخيرة، بدءاً من تواري أحد رموز ثورة أوكرانيا، ورئيسها لاحقاً، فيكتور يوتشينكو، عن الأنظار، وانتهاءً بـ"هروب" الرئيس المخلوع، رئيس حزب "الأقاليم"، فيكتور يانوكوفيتش، إلى روسيا. في ظلّ هذه التغييرات بقيت تيموشينكو، في مكان ما، حاضرة لأي جديد يطرأ.
لا يعرف عن تيموشينكو أنها سياسية "عقائدية"، وخصوصاً أن حليفها السابق، يوتشينكو، وصفها بـ"مرشحة روسيا الرئاسية"، علماً بأنها سُجنت لحوالي ثلاث سنوات بين عامي 2011 و2014، لسبب "إبرامها صفقة لشراء الغاز من روسيا، اعتُبرت مخلّة بمصالح البلاد". عدا عن ذلك، قامت تيموشينكو بزيارة أخيرة إلى الولايات المتحدة، والتقت أبرز أركان الحزب الجمهوري، كسيناتور أريزونا جون ماكين، ودعت من هناك إلى التغيير الحكومي. براغماتية، أو تحوّلات تيموشينكو لا تُطمئن الشعب الأوكراني، الذي لم يمنحها ثقته لا رئاسياً ولا برلمانياً في عام 2014.
يُمكن لروسيا حالياً، وأنصارها في الشرق الأوكراني، الاكتفاء بمراقبة الوضع، فبعض مصارفها، أو فروع تابعة لمصارفها، تعرّضت لاعتداءات عدة في الأيام الأخيرة. يُمكن لموسكو تصعيد المواجهة، إلا أن الأمر غير وارد حالياً، باعتبار أن كييف تغرق في أزمتها الداخلية شيئاً فشيئاً، بالتالي من مصلحة موسكو اعتماد سياسة "ننتظر ونرى حالياً مآلات الأزمة الداخلية". انطلاقاً من ذلك، من المرجح أن تكون الحقبة المقبلة "فريدة" من نوعها، باعتبار أن أي تغيير أو ثورة أو توسّع لأعمال الشغب في أوكرانيا، سيكون مقتصرا على الداخل الأوكراني وموجّها ضد فئات وأحزاب أوكرانية، لا ضد روسيا ولا ضد أحزاب موالية لروسيا.
المخيف بالنسبة لأوكرانيا، هو أن شبه جزيرة القرم ستُصبح "من الماضي"، وأن حرب دونباس قد تنتهي بشروط الانفصاليين وخلفهم روسيا، وأن خطوط الغاز والأنابيب الروسية ستعبر بشروط روسية إلى أوروبا. ما قد يؤثر على خط "السيل الجنوبي"، الذي ترغب روسيا في مدّه عبر البحر الأسود والمياه الإقليمية التركية والبلقان إلى أوروبا. وعودة العمل بالخط الروسي ـ الأوروبي القديم، ستتيح لروسيا ممارسة المزيد من الضغوط على تركيا، بالتالي يُمكن إدراج الخطوة التنسيقية الأخيرة بين سلطتي كييف وأنقرة، في سياق محاولات تركيا دعم أوكرانيا، للتركيز على مواجهة روسيا، لا الالتهاء بالخلافات الداخلية.
الغريب في كل ذلك، أن يانوكوفيتش، قد يستغلّ الأمر ويكون ركناً من أركان أي تسوية مستقبلية، في حال وجد الأوكرانيون أنفسهم أمام حلّ واحد فقط لمعالجة اقتصادهم المتهاوي: روسيا. كأنه سيناريو سورية يتكرّر في أوكرانيا.
العربي الجديد
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022