د. أمين القاسم - القرم
يطلق على الشعوب أسماء مختلفة مثل (الإغريق) و(الفرس) و(الروس)، لكن من أطلق هذه الأسماء؟، وماذا تحمل هذه الأسماء من معاني؟، ولماذا يعرف شعب واحد بأسماء مختلفة؟، ولماذا تطلق أسماء مختلفة على شعب واحد؟.
إنها تساؤلات مهمة، فدراسة جذور التسمية لأي شعب تعطي فكرة عن تاريخه ومعتقداته وثقافته، وتساعد في تفسير مفهوم "الأنثروبولوجيا".
وتغيير الإسم لشعب ما يؤدي إلى تفسيرات خاطئة لماضيه وتشويه لأصوله.
ونجد هذا التشويه بوضوح في تاريخ اسم (التتار)، إذ أن الخلط بين الشعب الذي يحمل هذا الإسم اليوم وبين التتار (المغول) بدأ يعطي ثمارا مريرة تتمثل في تفسيرات واستنتاجات خاطئة لحضارة وميراث هذا الشعب، ونظرة الآخرين السلبية إلى أعماله وانجازاته.
وبنظرة سريعة إلى كتب العلماء والمؤرخين العرب والغربيين نجدهم ينقسمون إلى ثلاث فرق: الفريق الأول ينسب (تتار اليوم) إلى المغول التتار الذين قاموا بغزو إيران وبغداد وروسيا، والفريق الثاني يرى أن التتار الذين نراهم اليوم ليسوا سوى خليط من القبائل التركية في وسط نهر الفولغا وغزاة المغول، وأخيرا يؤكد الفريق الثالث أن تتار قازان والقرم هم سلالة البولجار الذين اكتسبوا من المغول مجرد اسم (التتار).
يقول المؤرخ الروسي سميرنوف في مؤتمر علمي عقد في موسكو 1946م: إن الشعب التتري يعلم أصوله جيدا إذ أنهم أطلقوا على أنفسهم قرونا طويلة اسم (البولجار)، والمخطوطات الروسية التي تعود إلى القرن السادس عشر لم تطلق عليهم اسم (التتار) بل (البولجار).
ويضيف سميرنوف: إن المغول بعد أن أتوا بالسيف والنار لم يستقروا بين البولجار (تتار اليوم)، ولم يؤثروا تأثيرا ملحوظا على الشعب، فاسم التتار كان الروس يطلقونه على المغول.
ويؤكد العالم زالاي المتخصص في لغة الشعوب الناطقة باللغة التركية أن اللغة التترية الحديثة قد تشكلت وتتطورت من اللغة البولجارية والقبجاقية، وكل منها تعود إلى مجموعة لغوية واحدة هي اللغة التركية.
ويرى الكثير من العلماء أن اسم التتار مشتق من اللغة الصينية، إذ كانت هنالك قبائل مغولية تسكن في مانجوريا وشمال شرق منغوليا في القرن الخامس الميلادي، وقد تميزت تلك القبائل بروح قتالية عالية، مما جعلها تهدد القبائل المجاورة وتزعج الصينيين، وكانت غارات قبائل "تاتا" تجلب للصينيين الكثير من المتاعب والعناء، لذلك كان الصينيون يقصدون تصويرهم بالبرابرة الهمجيين، وقد أطلق مؤرخو الصين هذا الإسم فيما بعد على الشعوب الشمالية المجاورة لها، أو على الشعوب المعادية لها بصفة عامة، ثم انتقل اسم التتار كمرادف للبرابرة المتوحشين إلى المصادر الفارسية والعربية ثم الأوربية.
ويشير العالم ريتتر - عالم روسي في الجغرافيا والتاريخ - في كتابه (شعوب أرض آسيا) إلى الأصل التركي لهذه الشعوب بقوله: بعد أن ضم الروس إلى بلادهم إمارة قازان وإماراتي استراخان والقرم بقي اسم التتار يطلق على سكانها رغم أنهم كانوا من الشعوب الناطقة بالتركية، فأصبحت لغتهم منذ ذلك الحين تسمى تتارية وليس تركية.
وفي الجزء الرابع عشر من الموسوعة التاريخية السوفيتية جاء مايلي: (وقد أصبحت بعض هذه الشعوب التركية تطلق على نفسها اسم التتار).
ونفهم من هذا أن الشعب المعروف بهذا الاسم اليوم قد أطلق على نفسه اسم التتار بمحض إرادته كوصف يناسب ويعكس أصوله، ومن ثم فإن اسم التتار اسمه الحقيقي.
وإذا عدنا إلى ذاكرة الشعب نفسه، نستطيع أن نرى كيف يخالف مثل هذا الإدعاء الواقع ويجافي الصواب.
لقد أطلق على دولة البولجار اسم (بولجاريا) أي بلغاريا العظمى، وهذه الدولة ذاع صيتها في بلاد الشرق الأقصى وجنوب أوروبا.
وعلى الرغم من أن اسم التتار يطلق على هذا الشعب اليوم إلا ان هناك بعض الشعوب المجاورة اليوم يطلقون على التتار حتى الآن اسم (بيجاري)أي البولجاري، أما الكازاخ فيطلقون عليهم اسم (النوغاي) أي القبجاق الشماليين.
إضافة إلى أن العادات والتقاليد في الأفراح والأتراح لمسلمي القرم، كما أن لباسهم الحالي ومأكولاتهم وأسمائها والترات المحكي من أمثال وقصص وحكايا قديمة كلها تعود أو ذات جذور تركية وليست مغولية.
وإذا نظرنا في رحلة ابن بطوطة (المتوفى 1378م) إلى بلاد القرم في كتابه (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) نجد أنه وصف الشعب الذي يعيش في شبه جزيرة القرم بالأتراك وأن لغتهم هي التركية، وأسهب في وصف مدنهم (الكرش، وسوداق، والقرم، والكفا) وذكر الكثير من علمائهم وقرائهم وقضاتهم وأمرائهم.
ويقول الدكتور محمد علي الصلابي عن المغول: (لقد عرَّفهم مؤرخونا، العرب منهم على وجه الخصوص والذين عاصروا أحداث ظهور المغول وغزواتهم للعالم الإسلامي بأنهم هم، التتر أو التتار وقد نهج منهجهم من جاء بعدهم من المؤرخين، بل وحتى الأغلبية من مؤرخي المغول في عصرنا الحاضر، على أن هذه التسمية الخاطئة لم تقتصر فقط على المؤرخين المسلمين من العرب، بل وسار على ذلك التعريف الخاطئ المؤرخون والرحالة الأوربيين الأقدمون منهم على وجه التخصيص، إلا أن المؤرخين الأوربيين المستشرقين الكبار، أمثال بريتسكنيدر وبارثولد الروسيين، وسيولر الألماني وبويل الإنجليزي وغيرهم، عرفوا الفرق بين التتار والمغول وذلك من خلال ما كتبه المؤرخ المسلم رشيد الدين الوزير، وخاصة ما كتبه في كتابه المشهور"جامع التواريخ"، ثم ما كتبه المؤرخون الصينيون، والتي ترجمت كتبهم إلى بعض اللغات الأوربية الحديثة، كالروسية والألمانية والفرنسية والإنجليزية، كما عرف المستشرقون ذلك أيضاً مما كتب باللغة المغولية).
وفي ثلاثينيات القرن العشرين قام العالم السوفيتي كريستانوف بدراسة أنثروبولوجية للشعوب الناطقة بالتركية في آسيا، وأشارت الدراسة إلى أن العنصر المغولي يشكل 90% بين الكازاخ و10% بين الأوزبيك، لكنه لايوجد بين البلكار والقراتشاي (أي بين التتار والقوقازيين).
ونختم حديثا بما قاله المؤرخ الدكتور محمد صبحي عبد الحكيم: (وقد أعطى الروس اسم التتار لمجموعة متنوعة من الشعوب المتحدثة بالتركية وبغيرها قبل وصول الإسلام بوقت طويل، وبعد وصول الإسلام مال الروس إلى تسمية كل المسلمين باسم التتار، أما اليوم فيطلق هذا الإسم على عدة شعوب مرتبطة ببعضها البعض.
والتتار الحاليون لايمكن إعتبارهم أحفاد مباشرين للمغول التتار من منشوريا، الذين اكتسحوا معظم أوراسيا في القرن الثالث عشر، وإنما هم سلالة قريبة /لبلغار الفولجا / كما المتحدثين بالتركية الذين يدينون لهم بتراثهم الإسلامي).
مركز الرائد الإعلامي
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022
التعليقات:
(التعليقات تعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس")