في العاصمة الأوكرانية – كييف طبعت مؤخرا وباللغتين الأوكرانية والروسية المذكرات الشخصية لشاعر السينما العالمية، ألكسندر بتروفيتش دفجنكو، بإصدار جديد تكشف دراستها أسباب الكراهية التي كان يضمرها ستالين للمخرج ذي الجذور الأوكرانية.
مأساة دوفجنكو تكشف أيضا معاناة المخرجين وصناع السينما «السوفييت» في عهد ستالين الذي كان بالإضافة إلى كونه رجل روسيا الأوحد الجبار، وهذا يجهله الكثيرون، العقل المفكر للسينما السوفييتية منذ انطلاقها. فهو ومن غرفته المظلمة في الكرملين كان يعيد هندسة الأفلام السوفييتية ويصوغ النسخ النهائية لها حسب أوامره. فالـ«المخرج» جوزيف ستالين الشغوف بالسينما كان كثيرا ما يساهم في إعطاء أفكار السيناريوهات التي يجب أن تُعد للسينما، بل أنه كان يبدي ملاحظات كأي ناقد سينمائي متمرس، على أداء ممثلين سوفييت هم نجوم محبوبون من الشعب. وهو كان مدركا لدور السينما الأيديولوجي، ومن هنا جاء سبب تدخله في كل شاردة وواردة في عالم السينما السوفييتية، بحيث لا يعرض شيئا قبل أن يراه في صالة العرض الخاصة به في الكرملين، مع حضور للمخرج الذي كان يجلس في زاوية ليس بعيدا عن قاعة العرض قلقا بانتظار الحكم النهائي بحق فيلمه.
لكن دوفجنكو، المخرج الأوكراني ذا الجذور الفلاحية، رفض بحذاقة هذ الواقع واختار طريقه الخاص الذي يتنافى مع ما كان يسمى «بالواقعية الاشتراكية»، ما حدا بالكثير من معاصريه من النقاد السوفييت للحديث عن طريق خاص يختلف عن الطريق الذي رسمته الثورة الاشتراكية الفتية آنذاك. وبسبب من هذه الجرأة غير المعهودة في السينما السوفييتية تولدت لدفجنكو مشاكل كبيرة مع رجل السلطة المطلق ستالين.
ففي منشور له صدر في 12 تشرين الثاني /نوفمبر عام 1942 أثناء الغزو الهتلري لأوكرانيا، وعد دفجنكو بأن يمنح دورا أساسيا لستالين في فيلمه المقبل وعنوانه «صراع من أجل أوكرانيا السوفييتية « 1943ولكن يبدو أن هذا الوعد لم يكن إلا تكتيكا من قبله لأنه وعد لم يتحقق مطلقا، بل أننا نرى في هذا الفيلم أن حضور ستالين بالكاد يكاد يكون محسوسا. فلم يظهر «الأب القائد» إلا في بعض اللقطات العامة، وفي الغالب في عمق الكادر مع باقي زعماء الثورة الاشتراكية كلينين أو مالتوف. وهذا الأمر بالضبط هو ما أغضب ستالين المحب للظهور في السينما، أشد الغضب. ففي اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي عام 1944 ذكر ستالين في حديثه على المنصة المخرج الأوكراني اثنين وستين مرة، وعلى إثرها استدعي دفجنكو على الفور إلى مكتب ستالين في الكرملين وكان في انتظاره بالإضافة إلى ستالين رئيس جهاز الشرطة السرية الـ (كي جي بي) لافرينتي بيريا.
عن هذا اللقاء كتب المخرج في مذكراته: «لن أنسى الوجه الشيطاني لبيريا وهو يحدق فيّ كأي ممثل فاشل، في ذلك اليوم الذي اصطحبني فيه إلى ستالين لأحاكم محاكمة قاسية (…) لقد صرخ بيريا في وجهي وقال لي «إننا قادرون على أن نُصلح لك رأسك»، ثم يوضح المخرج سبب هذا الغضب عندما استطرد بيريا في ذلك اللقاء المذكور وأضاف بأنك «بخلت على القائد بضعة أمتار من الشريط السينمائي وأنك لم تبدي جهدا في تصوير ستالين في أي من مشاهد الفيلم(…)».
إن إعادة عرض تاريخ السينما السوفييتية والأوكرانية اليوم تحديدا على شاشة الصراع الدموي بين الكرملين من جهة والأوكرانيين من جهة أخرى، ربما سيكشف لنا بعضا من الزوايا المظلمة من صفحات هذا الصراع بين قوميتين دُق بينهما إسفين الكراهية والحقد ربما لفترة طويلة، بحيث بلغ الأمر حدا مأساويا ظلت تفاصيله مخفية حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991. ومن أهم أحداث ومآسي هذا الصراع التي غيبت هي حرب الجوع أو ما كان يسمى في اللغة الأوكرانية «غولادامور» أي الموت جوعا وهي عملية تجويع متعمد، انتهت بموت الملايين منهم بأعداد تختلف الروايات عليها، بين مليونين وعشرة ملايين! ظلت هذه المأساة طي الكتمان حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 تحكي فصول هذه القصة الحزينة كيف اضطر البعض منهم إلى أكل لحم من قضوا جوعا كي يبقوا على قيد الحياة.
القدس العربي
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022