البحر الأسود الملتهب!

نسخة للطباعة2021.12.01

مثلما تنزاح القشرة الأرضية تحت ضغط تفاعلات حمم باطن الأرض فتزلزل من عليها، تتفاعل مصالح الدول وتتناقض ويزيح قويّها من هو أضعف، في حركة تدافع لا تنتهي، بينما يبقى الصغار مسرحاً للعمليات وصندوقاً لتسديد الفواتير.. هذا تقريباً ما يجري الآن بين روسيا والدول الغربية على صفحة مياه البحر الأسود التي بدأت، على ما يبدو، تشهد غلياناً ملحوظاً.

منذ أن هلّل دعاة انتصار الحضارة الغربية ونهاية العالم لسقوط الاتحاد السوفييتي، هدأت دوائر صنع القرار الاستراتيجي في الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة، مطمئنة لعالم هي قطبه الوحيد، وكان من الطبيعي أن تنشغل دوائر في الطرف الآخر في خطط استراتيجية خاصة بها تعيد لها ما خسرته أو تضمن لها مكانة تحت مظلة الكبار.

وأفرزت تلك التناقضات حروباً بالوكالة في غير بقعة من جغرافيا عالم القطب الواحد، ولعل منطقة البحر الأسود اليوم تعكس واحدة من أكثر البقاع سخونة تراكمت على نار أقل من هادئة، وقودها تطلعات الروس ومصادر الطاقة الأوروبية المرهونة لهم، ودول تمر خطوط الغاز من أراضيها. 

أما الخوف على حقوق الإنسان والديمقراطية وسباق التسلح وعسكرة الفضاء، فلكل منها فتيل جاهز بانتظار عود ثقاب.

وقد شهدت الأسابيع الأخيرة ارتفاعاً في بارومتر اهتمام الدول الغربية بما يجري في أوكرانيا وبيلاروسيا، حيث ظهرت أزمات متعددة الوجوه دفعة واحدة في علاقات روسيا مع جيرانها في الغرب. 

ويخشى بعض مسؤولي إدارة بايدن من أن روسيا ربما تكون أججت التوترات كمقدمة لتوغل آخر في أوكرانيا، بينما يعتقد البعض الآخر أنه جزء من لعبة نفوذ أكبر.

ساحة صراع جديدة

وتشير التقارير الغربية إلى أن البحر الأسود مرشح لأن يكون ساحة الصراع العسكري وحروب الطاقة، حيث اعتبرته دوائر استراتيجية أمريكية خط المواجهة الأهم في المنافسة مع الروس، ما يسلط الضوء على زيادة الحضور العسكري لحلف الناتو بهدف رفع مستوى الأمن الإقليمي هناك.

إلى ذلك، شدد تقرير صادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، على ضرورة منع موسكو من استغلال نفوذها في منطقة البحر الأسود لابتزاز دوله الصغيرة. ولعل هذا ما كشفت عنه التحركات الأخيرة، حيث بدا أن الدول الأوروبية ركزت اهتمامها، بشكل مفاجئ وموسع، على ما يجري على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا الذي اعتبرته تهديداً مباشراً لأمنها.

موسكو و"الاستفزاز"

من جانبها، استشعرت موسكو الخطر وسارعت إلى تعزيز وجودها العسكري على الحدود مع أوكرانيا، حيث زاد عدد قواتها هناك على 100 ألف جندي. 

تنظر موسكو إلى مثل هذه الاستفزازات على أنها اختبار لمدى استعدادها للرد. ولعل هذا ما يفسر إطلاق الجيش الروسي قنابل تحذيرية في مطاردة زورق سريع بريطاني دخل ما تعتبره موسكو مياهاً إقليمية قبالة ساحل جزيرة القرم.

والحقيقة أن الأنشطة البحرية الأمريكية في البحر الأسود تزيد من تصعيد التوتر في المنطقة.

تفيد تقارير إعلامية بأن سفينة القيادة الأمريكية «يو إس إس ماونت ويتني»، والفرقاطة «يو إس إس بورتر»، تجريان دوريات مشتركة في البحر الأسود. وتردد في أوساط الدوائر الدبلوماسية الأمريكية أن السفن الأمريكية موجودة في المنطقة لدعم حلفاء «الناتو».

استشعر الغربيون بعد تفجير أزمة اللاجئين في بيلاروسيا خطراً ما في الأفق، بشأن تصرفات روسيا تجاه جيرانها. والتقى دبلوماسيون أمريكيون كبار بمسؤولين روس. وسافر مدير وكالة المخابرات المركزية، بيل بيرنز، إلى موسكو في وقت سابق من هذا الشهر، حيث تحدث مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وبدأ الدبلوماسيون الأمريكيون اتصالات مكثفة مع أوروبا بشأن تهديد روسي محتمل.

وقد تحولت الأنشطة العسكرية الأمريكية المتصاعدة حول أوكرانيا إلى «خط أحمر» جديد لموسكو.

غيوم قاتمة

وقال مايكل كوفمان، مدير دراسات روسيا في مركز الدراسات البحرية الأمريكي: «هناك غيوم شديدة القتامة في الأفق». وأوضح أن المشكلة التي تواجه الجيش الأمريكي هي كيفية إظهار التضامن مع أوكرانيا، والاستعداد للوقوف في وجه العدوان الروسي المحتمل من دون إثارة التصعيد الذي يحرص على تجنبه في المقام الأول.

وقال روب لي، الضابط المتقاعد في سلاح مشاة البحرية والخبير في الشؤون الروسية، إن التفسير الأكثر ترجيحاً لتحركات الجيش الروسي هو أنه رسالة لإبلاغ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي أنه يجب عليهما تجنب تسريع مسار ضم أوكرانيا إلى «الناتو»، وبيعها الأسلحة الأمريكية، أو فرض عقوبات جديدة على روسيا.

وخلاصة القول، أن البحر الأسود صار ساحة ليّ الأذرع العالمية، في وقت يحرص كل طرف على ألا يتراجع خطوة تضطره للتراجع خطوات في التنافس على قيادة العالم، كما أن الأزمات متعددة الوجوه المفتعل منها، وغير المفتعل، ينتظر أن تختبر مجموعة من الفرضيات، أهمها متانة التحالف الروسي الصيني في وجه «الناتو» وحلفائه، واستعداد روسيا منفردة للكشف عن مدى ما وصلت إليه ترسانتها من تطور، ذلك الاستعداد الذي تبدى أول ملامحه في عملية تدمير القمر الصناعي في الفضاء التي قد تنقل الصراع إلى مرحلة أكثر سخونة، والأيام حبلى.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

صحيفة "الخليج"

العلامات: 
التصنيفات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022