المكان: بودابست العاصمة الهنغارية
الزمان: 5 ديسمبر 1994
الحدث: اجتماع على أعلى المستويات بين ممثلي القيادة الأوكرانية والروسية والأمريكية والبريطانية
مقدمات الحدث: قبيل سقوط الاتحاد السوفيتي حاولت الولايات المتحدة تعطيل سقوط الاتحاد السوفيتي لأنها رغم انها كانت تعتبر الاتحاد السوفيتي الخصم الأخطر بالنسبة لها الا انها كان ترى في انهياره مشكلة أكبر!
المشكلة تكمن في وجود جمهوريات كثيرة ضمن الاتحاد السوفيتي وفي حال تفتتها فأن هناك خطر بدل وجود دولة نووية تسمى الاتحاد السوفيتي ظهور دول وجمهوريات اكثر بكثير قسم كبير منها نووي ولربما تحت أي ظرف او ضغط يمكن ان تخوف العالم باستخدام سلاحها النووي! لذلك رغم حرص أمريكا على اضعاف الاتحاد السوفيتي لأبعد الحدود كان هناك تخوف من سقوطه وتفتيته! نتيجة لهذا التخوف طار رئيس الدولة الامريكية بنفسه جورج بوش الاب الى كييف ليقلي امام برلمانها كلمة كتبتها كوندوليزا رايس محاولا اقناع الأوكران بتغيير شكل الاتحاد بدل من الخروج الكامل من الاتحاد السوفيتي.
لم تفلح مساعي جورج بوش الأب واستقلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي! كنتيجة لهذا الحدث أصبحت أوكرانيا امام معضلات مهمة تمس الأمن القومي الأوكراني! من ناحية فأن الدولة المستقلة حديثاً هي دولة نووية! هذا طبعا سيؤثر على الاقتصاد الاوكراني الذي ما يزال ضعيفاً وسيتسبب بضغوط عالمية هائلة على أوكرانيا قد تصل الى محاولة اجبار أوكرانيا للتواجد في أي شكل جديد من الاتحاد مع الجمهوريات السوفيتية وعلى راسها روسيا مما يهدد استقلال القرار الأوكراني، من ناحية ثانية تملك الدولة المستقلة حديثاً مشكلة أخرى هي تواجد قاعدة عسكرية روسية على الأراضي الأوكرانية في شبه جزيرة القرم التي تملك صفة خاصة مما يهدد بمشاكل مع الروس قد تنتهي بمحاولة الروس ضم شبه جزيرة الأوكرانية.
هناك مشكلة أخرى هي تهديدات من اطراف روسية بإعاقة الاستقلال الأوكراني وعدم الاعتراف به! وبوجود قوى عالمية مستفيدة من هذا الامر بات الأوكران امام لغز سياسي حقيقي يصعب حله! لذلك كان الاقتراح الأنسب لجميع الأطراف هو تفاهم جميع الأطراف على ما سيحصل في بودابست كما سبق في بداية المقال, اتفاق ينص على أن تسلم أوكرانيا سلاحها النووي لجارتها روسيا على أن تقوم كل من روسيا ومعها كل من أمريكا وبريطانيا (الدول الأكثر فاعلية في حلف الشمال الأطلسي الناتو) بضمان حدود أوكرانيا كاملة كما هي بعد الاستقلال.
لقد ظن ليونيد كرافتشوك الرئيس الأوكراني حينها انه اختار السلام لشعبه والعالم وتخلص من عبأ تخزين سلاح نووي خاصة انه لم يكن ينوي ان يستخدمه و بالمقابل حصل على ضمانات رسمية من جارته روسيا ومن قادة حلف الشمال الأطلسي على حماية بلاده في حال تعرضت لعدوان! من ناحية ثانية وبحسب الاتفاقية تعتبر القاعدة العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية في القرم أراض مؤجرة لزمن معلوم يتم التجديد لها في حال اتفاق الطرفان. اتفاقية تبدو وكأنها ترضي جميع الأطراف! بموجبها يحصل الأوكران على اعتراف الجميع بهم وبأمنهم ويحصل الروس على سلاح أوكرانيا النووي وكذلك يتم التمديد لقاعدتهم العسكرية لأجل معين واما أمريكا وبريطانيا فهم يضمنا امان أوكرانيا من جهة و بالمقابل يتم تقليص عدد الدول النووية في العالم مما يعني ضمانات امنية لهما ايضاً.
المشكلة في الحقيقة ستظهر بعد هذا الاتفاق ب 6 سنوات حينما وصل لحكم روسيا رجل باسم فلاديمير بوتن لم يكن يعبأ بالاتفاقيات التي وقعتها بلده بل كان يهتم أكثر بكثير بشكله ك (فاتح ومنتصر وموسع لرقعة الأراضي الروسية)
منذ وصول بوتن للحكم وعلى الرغم من انه كان على علاقات قوية بقادة من قادات الناتو مثل رئيس وزراء بريطانيا حينها توني بلير ومن بعدها علاقته الوطيدة جداً بسيلفيو بيرلسكوني الا انه كان ينزعج بالمقابل في حال حصول أي تقارب بين أوكرانيا والغرب على الرغم من انه نتيجة طبيعية لاتفاق بودابست المذكور أعلاه! مشكلة بوتن كانت في انه كان لا يرى أوكرانيا كدولة مستقلة وبالتالي لا يحترم حق الأوكران في اختيار حلفاء سياسيين تماما كما تفعل روسيا! بوتن كان دائما ينطلق من مفهوم ان أوكرانيا ليست الا تابع يدور في فلك الروس ويجب ان تبقى كذلك حتى تحين اللحظة المناسبة ويتم اعادتها طوعاً او كرهاً تحت السلطة الروسية.
من هنا ومع حصول ثورة الميدان في عام 2014 عرف بوتن ان أوكرانيا تمشي بخطى حثيثة باتجاه علاقات اكبر مع الغرب وانه ان أراد إبقاء أوكرانيا ضمن حظيرة الطاعة الروسية عليه ان يضرب عسكريا وقد حصل فقام بضم شبه جزيرة القرم قصرياً والحقها بغزو عسكري للشرق الاوكراني إقليم الدونباس.
تعب الشعب الأوكراني من الحروب لذلك وقبل وصول الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي وعد بانه سيحاول تجميد القتال في إقليم الدونباس وإيجاد حل عن طريق المفاوضات وبالفعل منذ وصوله الى السلطة طلب بمقابلة الرئيس الروسي اكثر من مرة لمناقشة ملف الدونباس كذلك طالب الرئيس الأوكراني الجيش الاوكراني بمحاولة ضبط النفس لتجميد الصراع في الدونباس وكنتيجة لهذه السياسة كان العام الأخير قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا هو اقل الأعوام في الخسائر العسكرية والبشرية في حرب الدونباس.
بما انه لم يكن هدف الرئيس الروسي من غزو شرق أوكرانيا هو الوصول لحل او لهدنة فقد كان هدفه السيطرة بشكل او باخر على أوكرانيا لذلك ضغط على ان تنفذ أوكرانيا اتفاقية منسك ولكن ضمن المفهوم الروسي وليس ضمن المفهوم الاوكراني! الفرق بين المفهومين هي ان اتفاقية منسك تنص على انسحاب القوى العسكرية وإقامة تصويت في الدونباس ومن ثم إعطاء الدونباس وضع خاص وممثلين لها في البرلمان الاوكراني. وبينما اكد الطرف الاوكراني ان لا يمكن لانتخابات ان تحصل حتى تنسحب القوى العسكرية الروسية من الإقليم (من أمثال ايغور غيركين ومقاتلي فاغنر) كي لا يحدث تلاعب كما حصل في القرم, الا ان الطرف الروسي كان يصر على انه يجب ان يتم تنفيذ اتفاقية منسك تماما كما يريدها الروس والا على الأوكران ان يعانوا من العواقب.
حتى لو قام الرئيس الاوكراني بتنفيذ التهديد الروسي لم يكن الشعب الاوكراني ولا حتى ممثليه في البرلمان الاوكراني ان يقبلوا والا لواجهوا من الشعب بثورة ثالثة فالشعب الاوكراني لم يكن جاهز لان يرى مجرمي الحرب الروس يأمرون وينهون ضمن البرلمان الاوكراني خاصة بعد 8 سنين من الحرب معهم
كنتيجة طبيعية حاول زيلنسكي ان يجد صيغة أخرى للسلام لكن الطرف الروسي كان متعنتا لأنه يريد ان يرى قوى تابعة له في البرلمان الاوكراني ويعيد أوكرانيا تدريجيا للسلطة الروسية, وبما ان الحكومة الأوكرانية لم ترضخ للابتزاز الروسي قام الروس بإعلان حرب شاملة على أوكرانيا لكن من المهم ان نتذكر بانه قبيل الحرب بعدة اشهر كتب بوتن مقال شهير يشرح فيه كيف انه لا يرى أوكرانيا دولة مستقلة وانها تعتبر امتداد طبيعي لروسيا كي ينذر العالم بما هو مقدم على فعله وفعلا قبل الحرب قام بخطاب شهير يذكر فيه ان من وجهة نظره لا وجود لأوكرانيا وانه سيعيد الأمور على وضعها الطبيعي.
مع بداية الحرب كان الروس يظنون انهم في نزهة وانهم سيحتلون كييف في ساعات! لكن الاستفزاز الروسي نجح في شيء واحد وهو توحيد الشعب الاوكراني المنقسم سياسيا قبل ذلك على ان يجتمع ويقاوم الاحتلال الروسي وقد كان! كنتيجة لذلك تم طرد القوات الروسية من كييف ومحيطها لحد الانسحاب الروسي من كامل شمال أوكرانيا
مع استمرار العمليات العسكرية على الرغم من تركيز الروس على الدونباس وزاباروجيا وخيرسون بعد فشلهم في ضم خاركيف واوديسا ودنيبر وميكولاييف استطاعت القوات الأوكرانية تدريجيا من الانتقال من الدفاع الى الهجوم للوصول الى واقع بحسب تاريخ اليوم استعادت فيه أوكرانيا السيطرة على اكثر من 50% من المناطق التي سيطر عليها الروس منذ بداية الغزو الروسي.
مع اعلان بوتن للتعبئة في روسيا ومع استمرار هذه التعبئة من الواضح ان هذه الحرب لا تمشي باتجاه التهدئة بل هي محرقة يعاني منها فعلياً كل من الشعبين! وان كان الروس بالفعل يملكون خيارات اكبر فهم في أي لحظة يمكنهم إيقاف الحرب بالانسحاب من الأراضي الأوكرانية والعودة للأراضي الروسية لا يملك الأوكران نفس الخيارات فاستسلام القوات الأوكرانية الكلي او الجزئي يعني انتهاء أوكرانيا للابد وعودتها لعصور الاحتلال الروسي وهذا ما يدركه الأوكران, لذلك يحارب الأوكران للدفاع عن بلدهم وارضهم وحلمهم في دولتهم مستقلة ونامية لتصبح يوما ما جزء من الاتحاد الأوربي كما يريد اغلب الشعب الاوكراني.
من ناحية اخرى على الرغم من ان اتفاقية بودابست عام 1994 وضعت أوكرانيا ميكانيكيا في حماية الناتو الا ان اغلب الشعب الاوكراني لم يكن على علاقة طيبة مع الناتو بل ان اغلب الأوكران لحد عام 2008 لم يكن يعتبر الانضمام للناتو امر جيد ولا حتى مفيد! لكن مع الغزو الروسي لجورجيا بدأ بعض الأوكران بالتخوف بان أوكرانيا قد تكون الهدف القادم لكن هذه الأصوات كانت قليلة خاصة بعدها عندما وصل فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا الى السلطة! لكن عدد الأوكران المؤيدين للانضمام للناتو ارتفع بشكل كبير جداً بعد حصول الغزو الروسي عام 2014 وضم القرم والهجوم على الدونباس! ومع تكرار الهجوم على أوكرانيا في عام 2022 أصبحت الغالبية الساحقة من الشعب الاوكراني تنظر للانضمام الى الناتو مسألة حياة او موت! اذ انه ومع وجود جار لا يحترم لا الحدود الدولية ولا العهود ولا المواثيق ولا يملك كلمة يمكن الوثوق بها! يصرح رئيسه لمرات بان القرم اوكرانية وان هذا الامر لا نقاش فيه ثم يعود بعد سنوات ويسرقها! ثم يخرج رئيس خارجيته ليقول " لن نقوم بغز أوكرانيا" ليعود بعد أيام ويغزو اغلب المدن الأوكرانية, اصبح من الواضح انه حتى لو تم إيقاف النار مع الجانب الروسي وايقافه لحد معين فأن الموضوع مسألة وقت قبل ان يبدأ بوتن او ربما أي رئيس بعده حرب أخرى يتابع فيها قضم الأراضي الأوكرانية! لان المشكلة هي ان الروس لا يرون ان أوكرانيا بلد مستقل اساساً.
انطلاقاً من هذه المعضلة امام أوكرانيا مجدداً (تماما كما كان الوضع بعيد استقلال أوكرانيا) خيارات صعبة تحدد معها مسألة امنها وامن العالم لتحدد ما هو الحد المقبول بالنسبة لها والذي يضمن امنها واستقرارها وحرية أراضيها كاملة وهل هي قادرة هي وحلفائها على دفع الثمن وفي حال لم تقم بذلك ما هي العواقب؟
الأوكران اليوم يدركون ان ثمن الحرية غال جداً ولكن المشكلة الأكبر هي ما هي البدائل؟ لو افترضنا ان جزء من الشعب الاوكراني قبل مثلا بإبقاء شبه جزيرة القرم تحت السيطرة الروسية كلياً او جزئياً فان الروس في أي لحظة كما فعلوا بعيد حربهم على أوكرانيا سوف يغلقون البحر الأسود تماما في وجه الأوكران! كذلك فان الصواريخ التي تطير اليوم نحو المدن الأوكرانية وتدمر بيوت المدنيين والمشافي والبنى التحتية هي تطير من البحر الأسود! بعض هذه الصواريخ هي نفسها الصواريخ التي اعطتها أوكرانيا لروسيا ضمن اتفاقية بودابست ظناً من الأوكران انهم يصنعون السلام! ليجدوا اليوم نفس الصواريخ تنزل فوق رؤوسهم!
اذا من الواضح ان مسألة القرم بالنسبة للأوكران هي مسألة حياة او موت! حتى لو مات بوتن او تم تنحيته في أي لحظة (كما رأينا عبر التاريخ الروسي) ممكن ان يصل ديكتاتور مهووس يعلن الحرب على جيرانه! بالتالي كل ما ابتعد الأوكران اكثر عن الروس كل ما كان هذا اضمن لسلامتهم ولضمان استقلالهم.
النقطة الثانية هي مسألة وقف اطلاق النار! وهل من مصلحة الأوكران على الأقل وقف اطلاق النار والعمل على الحلول الدبلوماسية؟ مرة أخرى الروس لم يلتزموا يوما باي اتفاق وقعوه لا في حربهم في الشيشان ولا مع جورجيا ولا في حربهم في سوريا ولا مع الأوكران قديما وحديثاً! اذا أي اتفاق مع الروس لا معنى له دون وجود قوة حقيقية ضامنة من ناحية! ومن ناحية ثانية الان يعيش الأوكران موجة من الدعم العالمي والعقوبات على روسيا! في حال حصول هدنة ستعود بعض الشركات لروسيا وسيخف الدعم لأوكرانيا! روسيا في الحالة الطبيعية هي اكثر دول العالم حصة من الموارد الطبيعية! اذا كما سبق وقلنا في حال إعادة تفعيل الصراع العسكري في ظروف أخرى عندما يكون الجيش الروسي اكثر تحضيرا من حاله اليوم ( نتيجة لتلقيه ضربة قوية بسبب غروره وقلة تحضيره في الحرب الحالية) وبوجود دعم عالمي اقل لأوكرانيا وعقوبات اقل لروسيا فالنتيجة ستكون حتما خسائر عسكرية وبشرية اكثر بكثير للاوكران من خسائرهم اليوم.
اذا ما هي خيارات السلام الحقيقية امام الاوكران؟ في الحقيقة لا يوجد امام الأوكران الا خيارين اما انسحاب روسيا الطوعي من كافة الأراضي الأوكرانية او اجبار الروس على الانسحاب وهزيمة جرارة للروس تنطبع في الوعي الروسي كي تأخر فكرة أي غزو روسي اخر لأوكرانيا لجيل كامل على الأقل! كي يستفيد الأوكران من هذه الفترة في اعداد بلد قوي وجيش قوي وحلفاء عسكريين لتقليل احتمال تكرار سيناريو عام 2022 في المستقبل القريب.
أي حل يعطي الروس فرصة إعادة رص الصفوف وتمويل من يتم سحبهم الان ضمن التعبئة المستمرة هي بمثابة انتحار للامة الأوكرانية وللشعب الاوكراني وكما نذكر فقد وقعت الفصائل السورية المعارضة امام نفس الخطأ عندما وثقوا ب "الضامن الروسي" لتكون النتيجة تآكل بقعة الأراضي التي سيطرت عليها الفصائل السورية من جهة ومن ثم طرد وتشريد مئات الالاف من الشعب السوري من المناطق التي كانت تحت سيطرة الفصائل قبل ان تعيدها روسيا عسكريا لحكم دميتها في سوريا بشار الأسد!
باختصار الخيار الوحيد امام الأوكران رص الصفوف والاستفادة من الفرصة النادرة الموجودة حاليا لإعادة السيطرة على الأراضي الأوكرانية وخاصة شبه جزيرة القرم وتحجيم تواجد الروس في البحر الأسود وتحصين الأراضي الأوكرانية امام أي غزو سواء من الشمال من جهة بيلاروسيا او أي جهة أخرى كي يبقى للدولة الأوكرانية وجود ويبقى الشعب الاوكراني يتنفس هواء الحرية.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022