في معظم أيام شهر أبريل الماضي 2021، تركز الاهتمام الدولي على حشد غير مسبوق للقوات الروسية على الحدود الأوكرانية. فهل كان فلاديمير بوتن على وشك شن تصعيد كبير في حربه التي دامت سبع سنوات على أوكرانيا؟
بعد أسابيع من التوترات والتكهنات، بدا أن بوتين تراجع، رغم أن الجزء الأكبر من الحشود والمعدات العسكرية الروسية قرب حدود أوكرانيا لا تزال قائمة.
عملية بوتين حققت غايتها، فقد نجح بجذب انتباه العالم، وتذكير الدول بضرورة أخذ روسيا على محمل الجد؛ كما ضمن أيضا عقد اجتماع قمة "مرغوب فيه" مع الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، الأمر الذي خلق بالضبط ذلك النوع من "المرئيات الخارقة"، التي يتوق إليها الحاكم الروسي.
تركز الاهتمام بقوة على الحدود البرية، التي يزيد طولها عن 2000 كيلومتر، لكن عددا قليلا نسبيا من المراقبين لاحظوا حشد القوات البحرية الروسية في منطقة البحر الأسود.
قرار موسكو بإغلاق بحر آزوف فعليا أمام السفن العسكرية وغير العسكرية، وحتى غير الروسية المملوكة للدولة، لم يثر سوى القليل من التعليقات، رغم الآثار الخطيرة المترتبة على مرور السفن الأوكرانية من وإلى موانئ بحر آزوف المزدحمة سابقا في البلاد. وبدون أي ضجة، أصبح بحر آزوف بحيرة روسية.
إن نجاح مناورة بحر آزوف الروسية يمهد الآن الطريق لتصعيد بحري قد يغير قواعد اللعبة على طول الساحل الجنوبي لأوكرانيا. ونظرا لعدم وجود رد فعل دولي على الضم البطيء لبحر آزوف، يخشى الكثيرون في كييف الآن من أن تسعى موسكو قريبا إلى توسيع هذا الحصار البحري، وصد أوكرانيا تماما عن البحر الأسود.
تم بالفعل تقييد وصول أوكرانيا إلى البحر الأسود بسبب الاحتلال المستمر لشبه جزيرة القرم، والتعطيل المنهجي الذي تفرضه روسيا على حركة الشحن من وإلى أوكرانيا في بحر آزوف، منذ عام 2018.
في هذا الواقع الجديد، تعمل الموانئ التجارية في مناطق أوديسا وميكولايف وخيرسون (إلى الغرب من شبه جزيرة القرم) كشريان حياة اقتصادي بالنسبة لأوكرانيا في الأسواق العالمية.
تلعب هذه الموانئ دورا حيويا كبوابات للجزء الأكبر من الصادرات الزراعية والصناعية لأوكرانيا، حيث تتعامل مع نحو ثلثي تجارة البلاد مع العالم الخارجي.
ونظرا للأهمية الاستراتيجية لموانئ أوكرانيا المتبقية على البحر الأسود، فإن هناك خطرا حقيقيا من أن تقرر روسيا منع حركة الملاحة البحرية، من أجل تركيع الاقتصاد الأوكراني. هذا ممكن عسكريا، ولدى روسيا بالفعل ما يكفي من السفن الحربية في البحر الأسود لتنفيذ مثل هذه العملية.
استنادا إلى تجربة المواجهات البحرية المماثلة بين روسيا وأوكرانيا في السنوات الأخيرة، لن يكون هناك احتمال كبير لرد عسكري غربي مباشر يكسر هذا الحصار حينها. وعندها، الاقتصاد الأوكراني بأكمله سيتوقف بسرعة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب كارثية على السكان.
تواجه أوكرانيا تطويقا روسيا متزايدا. فبالإضافة إلى الحدود البرية الطويلة بين البلدين، والوجود الروسي غير القانوني في الجنوب (في شبه جزيرة القرم وبحر آزوف)، تواجه أوكرانيا أيضا تهديدا متزايدا في الشمال، حيث يمكن اعتماد ديكتاتور بيلاروسيا ألياكسندر لوكاشينكو المتزايد على دعم الكرملين موسكو من توسيع نطاق تواجدها العسكري في البلاد.
في الوقت نفسه، على الجناح الجنوبي الغربي لأوكرانيا، يمتد جيب ترانسنيستريا الروسي مثل خنجر صغير على طول الحدود مع مولدوفا. وإجمالا، فإن حوالي ربع حدود أوكرانيا فقط خالية من السيطرة الروسية المباشرة أو غير المباشرة.
أوكرانيا ليست حاليا في حالة تمكنها من مقاومة روسيا في البحر. فقدت أوكرانيا معظم أصولها البحرية المتواضعة أثناء الاستيلاء على شبه جزيرة القرم.
يجري العمل على إنشاء قوة بحرية أوكرانية جديدة، ولكن التقدم يثبت أنه بطيء بشكل مؤلم، على الرغم من المساعدة المقدمة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في هذا الإطار.
أسباب ودوافع روسيا
هناك الكثير من الأسباب التي تدفع روسيا لاستعراض عضلاتها في البحر الأسود، منها:
موسكو يائسة عن حل أزمة المياه في شبه جزيرة القرم، الناجمة عن إغلاق قناة القرم الشمالية، التي جلبت المياه من البر الأوكراني الرئيسي إلى شبه الجزيرة، حتى تم إغلاقها من قبل كييف في ربيع عام 2014.
الكرملين غاضب من خطط ومبادرة أوكرانيا إطلاق مؤتمر "منصة القرم" في أغسطس 2021، كوسيلة لإعادة الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم إلى جدول الأعمال الدولي.
موسكو غاضبة أيضا بسبب رفض الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قبول رواية الكرملين المفضلة عن "الحرب الأهلية"، والدخول في محادثات مباشرة مع وكلاء روسيا في شرق أوكرانيا. وقد أثار الرئيس الأوكراني الشاب المزيد من الغضب في أوائل عام 2021، بإغلاق عدد من القنوات التلفزيونية الموالية للكرملين، المرتبطة بحليف بوتين الأوكراني، فيكتور ميدفيدتشوك.
مع عدم وجود أي مؤشر على الاستسلام المطلوب في كييف، واحتمال ضئيل لموافقة البيت الأبيض على "صفقة كبرى" تعترف بحق روسيا في منطقة نفوذ تضم أجزاء من أوكرانيا، من المرجح أن تصبح فكرة الحل العسكري أكثر جاذبية بالنسبة لبوتين في الأشهر المقبلة.
ويمكن أن تكون إحدى الشرارات المحتملة لهذا الحل العسكري مناورات "سي بريز 2021" المقبلة في البحر الأسود وجنوب أوكرانيا، التي يشارك فيها الجيش الأوكراني إلى جانب أكثر من عشرين دولة شريكة. ومن المحتمل أن تقوم روسيا بخطوات عسكرية خاصة بها في منطقة البحر الأسود خلال هذه المناورات .
ونظرا لضعف أوكرانيا أمام حصار البحر الأسود، وفي ضوء استعداد روسيا المؤكد لاستخدام القوة، فمن الأهمية بمكان أن يتبنى المجتمع الدولي الآن موقفا حازما لردع التصعيد المحتمل في الحرب غير المعلنة بين البلدين.
كان للجهود السابقة الرامية إلى استرضاء الكرملين أثر معاكس، حيث كانت مجرد تشجيع على المزيد من الأعمال العدوانية.
ويجب أن يستند الرد الدولي على هذا التهديد إلى فهم روسيا الحديثة كقوة تسعى إلى إعادة تأكيد سلطتها في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق، والهيمنة على منطقة واسعة.
لفترة طويلة جدا، تعامل القادة الغربيون مع كل غضب جديد ارتكبه الكرملين باعتباره حادثا منعزلا يتطلب الحوار والتوصل إلى حل وسط.
نمط العدوان الروسي طويل الأمد في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي يشكل جزءا من استراتيجية كبرى لإخضاع جيران روسيا، واستعادة مركز القوة العظمى للبلاد.
أوكرانيا هي التي تمسك بمفتاح هذه الاستراتيجية برمتها، ويدرك بوتن أنه بدون إعادة أوكرانيا إلى المدار الروسي، فإن مهمته التاريخية ستنتهي بالفشل.
وصول أوكرانيا إلى البحر الأسود يشكل حاليا الحلقة الأضعف في دفاعات البلاد، وهو يشكل فرصة قوية أمام بوتين.
أي محاولة روسية لتكرار تكتيكات الحصار المستخدمة بنجاح في بحر آزوف من شأنها أن تغرق أوكرانيا في أزمة، وتخرق أسس القانون البحري. ومن أجل تحقيق الأمن الأوروبي، ينبغي على المجتمع الدولي أن يتخذ تدابير لمنع تطور هذا السيناريو المقلق.
اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)
المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".
أوكرانيا برس - Atlantic Council
حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022