خمسة أسباب تدفع أوكرانيا إلى رفض "العالم الروسي" الخاص بفلاديمير بوتين

نسخة للطباعة2021.03.30
تاراس كوزيو - أستاذ العلوم السياسية في أكاديمية "موهيلا" الوطنية بالعاصمة كييف

في فبراير 2021، دخلت الحرب الهجينة التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا عامها الثامن. وخلال هذه الفترة، نجح الكرملين في احتلال شبه جزيرة القرم، ومساحات كبيرة من الأراضي بمنطقة دونباس الحدودية في شرق البلاد. 

وفي الوقت نفسه، تراجع النفوذ الروسي في أوكرانيا بنسبة 92.8٪، وهذا يشكل أدنى مستوى منذ أكثر من 300 عام.

الأحداث التي وقعت في السنوات السبع الماضية أدت إلى خروج أوكرانيا عن منطقة نفوذ روسيا. ويمكن رؤية دلائل على هذا التحول التاريخي في جميع أنحاء المجتمع الأوكراني.

من الناحية السياسية، تراجع حضور القوى الأوكرانية الموالية لروسيا إلى أقل من نصف مستويات ما قبل الحرب. فالأحزاب السياسية الأوكرانية التي تميل إلى موسكو، والتي كانت قادرة على تشكيل الأغلبية البرلمانية والفوز بالانتخابات الرئاسية قبل أقل من عقد من الزمن، تكافح الآن من أجل اجتياز حاجز الـ 20٪ في أي انتخابات وطنية، وتعتمد بشكل كبير على قاعدة انتخابية متقادمة مدفوعة بالحنين إلى الاستقرار السوفييتي. هذا لا يترك مجالاً كبيرا لأي انتعاش في الحظوظ السياسية لهذا القوى.

كما تضاءلت قدرة روسيا على الهيمنة على أوكرانيا اقتصاديا إلى حد كبير. فقبل الحرب، كانت العلاقات مع روسيا تمثل نحو 30٪ من الميزان التجاري السنوي لأوكرانيا. وبحلول عام 2020، انخفض هذا الرقم إلى ما يقرب من 7 في المائة. 

خلال نفس الفترة، ازدهرت التجارة الأوكرانية مع الصين والاتحاد الاوروبى. والقوى العاملة في أوكرانيا ابتعدت عن الوجهات الروسية التقليدية في التعامل والتصدير منذ 2014، لصالح بدائل في الاتحاد الأوروبي.

وبعيدا عن السياسة، كانت أوكرانيا بعد الاتحاد السوفييتي أعظم قصة نجاح للقوة الناعمة بالنسبة لروسيا. أما بعد الحرب، مُنع الكثير من المشاهير الروس رسميا من دخول أوكرانيا، في حين أن آخرين كثر أصبحوا في خانة "غير المرحب بهم".

ابتعدت معظم القنوات التلفزيونية الروسية عن موجات الأثير الأوكرانية، والقنوات التلفزيونية الأوكرانية خفضت بشكل كبير محتواها الروسي. ثم حجبت مواقع التواصل الاجتماعي الروسية، وتحول الملايين من الأوكرانيين إلى فيسبوك وغيرها من المنصات الدولية (غير الروسية).

حتى أن روسيا تراجعت في المجال الروحي. فقد أدى إنشاء كنيسة أرثوذكسية أوكرانية مستقلة في 2019 إلى ضعف هيمنة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في أوكرانيا، كما كان سابقا.

كان الكثيرون في موسكو يأملون بأن يؤدي انتخاب المرشح اليهودي الناطق بالروسية فولوديمير زيلينسكي رئيساً لأوكرانيا في ربيع عام 2019 إلى عكس خسارة روسيا الكارثية للنفوذ في البلاد. ومع ذلك، وبعد مرور عامين تقريبا، لم يحدث أي انتعاش من هذا القبيل.

بل على العكس من ذلك، شن زيلينسكي بنفسه حملة على السبل المتبقية لنفوذ الكرملين في أوكرانيا. وقد أغلق مؤخرا القنوات التلفزيونية الأوكرانية المرتبطة بالكرملين، وفرض مجموعة من العقوبات على الحلفاء الأوكرانيين الرئيسيين لروسيا؛ وتبنى أيضا استراتيجية لفك الاحتلال في شبه جزيرة القرم.

تحول أوكرانيا الجيوسياسي بعيدا عن روسيا يحظى بدعم شعبي ساحق. واستطلاعات الرأي الأوكرانية تشير باستمرار إلى تأييد الأغلبية لعضوية الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي في المستقبل، لذا من الصعب أن نتصور أي طريق للعودة إلى روسيا. يبدو أن قد فلاديمير دخول كتب التاريخ الروسية باعتباره الرجل الذي فقد أوكرانيا.

إن خسارة أوكرانيا تُعَد ضربة ساحقة لأحلام بوتين في النهضة الإمبراطورية، وهزيمة مدوية لعقيدة "العالم الروسي" التي كانت بمثابة الأيديولوجية غير الرسمية لنظام بوتين على مدار أكثر من عقد من الزمن.

بدأ التزام بوتن بما يسمى "العالم الروسي" الذي يمتد إلى ما وراء حدود روسيا الحديثة في التبلور لأول مرة في منتصف القرن الحادي والعشرين، واكتسب زخماً كبيراً في أعقاب غزو روسيا لجورجيا عام 2008.

وفقاً لبوتين وغيره من الدعاة البارزين، فإن "العالم الروسي" يشمل السكان في جميع أنحاء الإمبراطوريات القيصرية والسوفييتية السابقة، الذين تربطهم اللغة الروسية والدين والثقافة والتاريخ.

هذه "الرواية الروسية" ترفض كفاح أوكرانيا من أجل إقامة دولة باعتبارها خيانة لـ "الأخوة" الروسية الأوكرانية. والواقع يقول إن إيديولوجية "العالم الروسي" التي يروج لها نظام بوتين ظلت بعيدة عن الرأي العام الأوكراني لسنوات عديدة. واتسعت هذه الفجوة بشكل كبير مع تصلب المواقف ردا على الحرب الروسية غير المعلنة، والمستمرة.

في أوائل عام 2014، وقع بوتين ضحية لدعايته الخاصة، إلى حد أنه كان يعتقد حقاً أنه قادر على تنظيم انتفاضات موالية لروسيا في مختلف أنحاء أوكرانيا. وبدلاً من ذلك، أشعل هجوم الكرملين الهجين على السيادة الأوكرانية موجة من المعارضة الشعبية، التي كان لها عواقب كارثية على المصالح الروسية في البلاد.

خسارة أوكرانيا تعني أن موسكو يجب أن تتصالح مع أكبر تراجع في النفوذ الروسي منذ زوال الاتحاد السوفييتي.

وفي هذه المرحلة، من الممكن بالفعل تحديد خمسة أسباب رئيسية دفعت الأوكرانيين إلى رفض إرادة بوتين بالعودة إلى "العالم الروسي".

1. غياب الهوية الإمبريالية: الهوية الوطنية الروسية الحديثة مرتبطة بشكل لا ينفصم مع مفاهيم المصير الإمبراطوري، وهذا الشيء ببساطة لا ينطبق على رغبة الأوكرانيين.

2- الاختلاف الديمقراطي: بعد حصول أوكرانيا على الاستقلال في عام 1991، تبنت الديمقراطية ببطئ، ولكن بثبات، ما أدى إلى ظهور نظام سياسي متعدد الأحزاب، يتسم بقدر كبير من المنافسة. 

3- تأثير الحرب: قبل عام 2014، لم تكن الآراء السلبية بشأن روسيا شائعة بشكل خاص بين الأوكرانيين. غير أن هذه المواقف أصبحت، منذ اندلاع الأعمال العدائية، سائدة بصورة متزايدة في جميع مناطق البلد.

ونتيجة مباشرة للصراع الدائر، انهار عدد الأوكرانيين الذين يحملون وجهات نظر إيجابية تجاه روسيا، من حوالي 80٪ إلى مستويات حالية تبلغ حوالي 40٪.

جيل كامل من الشباب الأوكرانيين الذين لا ذكريات تربطهم بالماضي السوفييتي المشترك يعرفون الآن روسيا في المقام الأول كمعتدي وخصم. 

4- الاختلافات الدينية: إن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية هي إحدى الركائز الأساسية لعقيدة "العالم الروسي".

تراجع هذا التأثير بعد اندلاع الأعمال العدائية في عام 2014، وتراجع أكثر بإنشاء الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة في أوكرانيا عام 2019.

5- حروب الذاكرة: تباينت أوكرانيا وروسيا حول عدد من المسائل التاريخية الرئيسية منذ عهد غورباتشوف. وعلى سبيل المثال، لا يتفق العديد من الأوكرانيين على أن شبه جزيرة القرم "كانت دائماً روسية"، ويرفضون أيضاً المحاولات الروسية للمطالبة بالتركة التاريخية لمملكة "كييف روس"، مهد الحضارة السلافية في المنطقة. 

في السنوات الأخيرة، ازدادت المساحة التي تفصل بين الروايات التاريخية الأوكرانية والروسية على نطاق أوسع من أي وقت مضى. فقد أدت قوانين إلغاء الشيوعية في أوكرانيا عام 2015 إلى الرفض بالجملة للرمزية السوفييتية، وإلى نهج جديد في التعامل مع الحقبة الشمولية، التي تتناقض بشكل مباشر مع جهود روسيا نفسها في عهد بوتين لإعادة إحياء نمط الاتحاد السوفييتي (أو العالم الروسي). 

إن مفهوم "العالم الروسي" برمته متجذر في أساطير إمبراطورية عفا عليها الزمن في القرن التاسع عشر، ولا مكان لها في القرن الحادي والعشرين. 

هذا النهج الإمبريالي يشكل الآن حاجزا أمام السلام والمصالحة المحتملة في المستقبل. وإلى أن تتمكن روسيا الحديثة من رفض مبدأ "العالم الروسي" السام، فإنها سوف تستمر بتسميم العلاقات مع أوكرانيا، وتوسيع الفجوة بين البلدين.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

أوكرانيا برس - Atlantic Council

التصنيفات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022