روسيا وأمريكا.. الجغرافية السياسية لا تحتمل الفراغ

نسخة للطباعة2020.10.16
ليليا شيفتسوفا – خبيرة سياسية روسية ودكتورة في مجال العلوم التاريخية

فليبارك الرب أمريكا...!. يجب أن تصبح هذه الكلمات شعار الطبقة الحاكمة الروسية. يدور الحديث عن أمريكا باعتبارها "كابحا" للنظام الروسي. يبدو الأمر مفارقة، لكنه واقع.

هذا الواقع هو على النحو التالي: تقارن روسيا نفسها بالولايات المتحدة. نظرة النخبة الروسية إلى العالم من منظور العلاقات مع واشنطن والردع المتبادل الموجود بين روسيا وأمريكا يعيد إنتاج مكانة روسيا كقوة عظمى. هذه المكانة هي العمود الفقري للدولة الروسية.

المفارقة المريرة تكمن في أن الديمقراطية الغربية العظيمة لم تقدر على تسهيل تحول روسيا، ولكنها سهّلت بشكل غير متوقع عودة روسيا إلى لعب دور الخصم، في حين أن النظام الروسي يستخدم بمهارة الحوار والمواجهة مع أمريكا لتلبية احتياجاته.

يخشى الكرملين (وهو محق في ذلك) إضفاء الشرعية على الدولة من خلال إظهار الرجولة أمام الصين، ولو قام بذلك لكان انتحارا، فمن يعلم كيف سيكون رد فعل الرفاق الصينيين.

يبدو إثبات الذات من خلال ترهيب الجيران كإطلاق النار على العصافير. لإثبات قوته بشكل مقنع، يجب على الكرملين اللعب مع أكبر قوة. ولكن مع القوة التي تستطيع أن تضبط نفسها في إطار السلوك المسؤول وتجاهل مشاكساتنا.

لكن الاختراع الذكي، المتمثل باستخدام  الخصم كالأدرينالين، يخاطر في أن ينتهي به الأمر في سلة المهملات. أمريكا متعبة وتريد الراحة والتخلص من الالتزامات التي قطعتها على نفسها.

في هذه الحالة، لا جدوى من إنتاج "متلازمة فايمار" الروسية والتذمر من الهيمنة الأمريكية. ولكن ما الذي يمكنه حينها أن يهيج الذات، وأن يبرر الرغبة في الانتقام والبحث عن "الطابور الخامس" العامل لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية؟!.

في نفس الوقت، الجغرافيا السياسية تمقت الفراغ. لا يمكن لروسيا أن تملأ المكان الذي أخلته أمريكا. ولكن، هل روسيا مستعدة لصعود الصين؟ وكيف ستتمكن روسيا من التعامل مع القوى الإقليمية المهيمنة، مثل تركيا المفلتة، التي لم تعد تخشى الصراخ القادم من واشنطن؟

الأمر الأكثر إثارة للاشمئزاز، هو أن أمريكا بدأت تتجاهل روسيا، حتى أن واشنطن لا ترد على المبادرات الروسية!. وبدلا من القطبية الثنائية، تبدأ رقصة التانغو بين الولايات المتحدة والصين. لا يتبقى لروسيا إلا أن تكبح شهيتها وأن ترضي نفسها في أفضل الأحوال بالعلاقات مع ألمانيا وفرنسا. وهذا تقريبا انتحار!.

تنهار الركيزة الأخيرة التي دعمت روسيا كدولة من خلال الردع المتبادل مع أمريكا - نظام الحد من التسلح. وينتهي معها الحوار اللامتناهي بين موسكو وواشنطن حول الاستقرار الاستراتيجي الذي يدلك حب الذات عند النخبة الروسية.

اللوبي المؤثر

يبقى في الواقع اللوبي المؤثر في أمريكا، الذي كرس حياته للعلاقات مع روسيا. يحاول هذا اللوبي أن يعيد دور التهديد الرئيسي لأمريكا الذي لعبته روسيا. 

يظن بعض ممثليه أنه من الضروري التحدث مع روسيا وأن هذه المحادثة ستنقذ العالم من كارثة نووية. ويقول الآخرون إنه يجب معاقبة روسيا ومطالبتها باللعب وفقا للقواعد.

يدرك الرئيس بوتين نفسه مدى أهمية الولايات المتحدة للدولة الروسية. لذا، لا يكل أبدا من أن يعرض على أمريكا استئناف الحوار. 

يقترح بوتين: دعونا نتحدث عن الأعمال ودعونا نعتمد ضمانات عدم التدخل في شؤون بعضنا الداخلية، وتعالوا لنبدأ التعاون في مجال أمن المعلومات. أين أنت يا أمريكا؟ ردي !! لكن الصمت سيد الموقف.

من المستبعد أن تكون دعوات الكرملين هذه ناجمة عن الإحساس بالضعف. فأمريكا اليوم لا توحي بامتلاك القوة والاستعداد لاستخدامها. والحديث يدور حول محاولة الكرملين عدم خسارة أثمن شيء، دوره السيادي، الذي تلعبه موسكو من خلال علاقاتها مع أمريكا.

إضافة إلى ذلك، هناك انطباع يحوي بأن بوتين يراهن أكثر على الديمقراطيين وقدوم الرئيس بايدن، ظانا أن الأخير سيعود إلى نظام الحد من التسلح الثنائي. باختصار، إلى التانغو الروسي الأمريكي.

طبعا، الكرملين غير مهتم بعودة أمريكا إلى الدعوة ومحاولات استعادة الدور المهيمن في العالم. ولكن من غير المرجح أن ترغب موسكو في أن تعود أمريكا إلى قوقعتها، ففي هذه الحالة، ستفوز الإمبراطورية الصينية، أو ستعود الحقبة الجوراسية. وقد أكون مخطئة حول بعد نظر الكرملين؟!

في الختام، هناك مفارقة أخرى: لن يعود العالم للتمحور حول أمريكا؛ بينما تبقى روسيا دولة متمحورة حول أمريكا. سواء إن كان هذا عادة أو تقليدا أو آلية لمتابعة المصالح أو طبع النخبة السياسية أو خوفا من زعزعة متانة النظام القائم.

يبقى الحوار مع أمريكا أو المواجهة مع أمريكا (وعلى الأرجح كلاهما) عاملا منظما لوجود الدولة الروسية ولعملها.

يجب أن تبقى روسيا بالنسبة لأمريكا أهم تحد جيوسياسي، وليس موضعا للاستخفاف المهين!.

لذا: "فليبارك الرب أمريكا...".

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

المادة أعلاه تعبر عن رأي المصدر، أو الكاتبـ/ـة، أو الكتّاب، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس".

أوكرانيا برس - "كوريسبوندينت"

التصنيفات: 

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022