زيارة الشيخ محمد عياد الطنطاوي إلى مدينة كييف عام 1840م

نسخة للطباعة2011.07.15

بقلم: د. أمين القاسم - سيمفروبل

وهكذا بعد أن كنا مع رحالتنا العزيز في سفره من مصر إلى إسطنبول ومنها إلى أوديسا ومشاهداته ووصفه لمرافقها، يكمل الطنطاوي واصفا الأساليب المتبعة عند الروس في تفتيش وختم أغراض وحاجيات المسافر:

"ثم خرجنا من أوديسا يوم الأربعاء 22 أيار في عربة اشتريناها ومررنا على ديوان الجمرك الذي مررنا به أولا، فنظروا العزال وربطوه بحبال وربطوا فيها قطع رصاص ثم ختموها، وأرسلوا خفيرا معنا إلى ديوان المكس الثاني في طريق الذاهب من أوديسا وبينهما مسافة قليلة، فأخذوا الرصاص المختوم، وسرنا حتى وصلنا إلى أول محطة لأخذ الخيل، وهناك، بل وفي سائر المحطات لايعطون الخيل إلا إذا رأوا ورقة مسماة البيدروجين، أو تذكرة المرور".

والبيدروجين: ورقة عليها وسام القيصر وبغيرها لا يمكن السفر، ويكتب عليها اسم المسافر ووقت وصوله ومغادرته.

ويكمل الشيخ معجبا بطريقة الروس في وضع علامات ولوحات إرشادية على الطرق:

"وسرنا من محطة إلى محطة، وكل محطة منقسمة إلى عدة مسافات يعبرون عنها بفرست يعني الفرسخ (حوالي 300 ذراع)، وعلى رأس كل فرست عمود من خشب لطيف منقوش عليه الذاهب والباقي من المنزلة، وقد كانت في زمن كاترين الكبيرة علامة الفرست عمودا مبنيا من الحجارة، ويوجد إلى الآن بعض هذه الأعمدة قرب جيتومير، فهذا مما ينشط المسافر.

والليل كالنهار في السير والصحو والغيم سيان، فلا مانع أبدا ولا خوف في هذه الطرق التي هي صحارى بلا أشجار مدة، ثم مملوءة بالغابات والأشجار الكثيرة، ويوجد في بعضها ذئاب وأرانب وحشية، وطالما تعجبت حين رأيت في هذه الطرق التي هي صحارى بلا أشجار مدة، ثم مملوئة بالغابات والأشجار الكثيرة، ويوجد في بعضها ذئاب وأرانب وحشية".

ويصف جمال الطريق إلى كييف ولا يخفي أمانيه في أن يكون الطريق إلى مكة كذلك:

"والبلاد التي جزنا عليها في المنازل كلها محفوفة بالأشجار، وبيوتها أكثرها بالخشب مبيضة من داخل ومن خارج، ومررنا على بلاد قديمة معمورة باليهود، وهم كثير في الطرق من أوديسا إلى نهر دفينا، وبالمروج كثير من الأنعام.

ووددت أن لو كان للحجاج طريق بهذه الكيفية، وأعجبني رعي عجول البقر الصغار وحدها أو مع الغنم، وكان الهواء معتدلا، فكان السير لذيذا في تلك الغيطان والأشجار حتى قلت:

أبصرت إذ جزت على الـروسيا *** أشـجـارهـا بالحسن مغبـوطـة

تدمـشـقـت من حسـن جنـاتهـا *** على دمشق الشـام والغـوطـة

وقلت:

لو الـحـريري أبـصـر الـروسيا *** لقـال فيهـا جنـة الـدنـيا

أو  عدّهـا   أوّل   جنـاتـهـا *** لكـنـه  لم يحظ  بالـرؤيا

وكلما مررنا يسلم علينا الناس برفع البرانيط، وقد اتفق أن السماء أبرقت وأمطرت في أول السفر، فقلت:

فرحت بمقـدمي البـلاد وأهلها *** رفعـوا برانـطهم لأجـل سلامي

حتى السمـا حيّت ببرقٍ ضاحك *** والأرض رشّـت ساعـة ً قُدّامـي

ومررنا على أنهار كثيرة أولها نهر بوخ، وعديناه بالعربة في قارب كالطوف يجر بجبل، وقد شربت من مائه العذب عند المرور.

ثم وصلنا إلى كييف يوم السبت، فنزلنا بها للراحة في خان لوندره، وهذه المدينة كانت كرسي مملكة الروسيا أولا وعليها آثار القِدم، وهي مقدسة عندهم، بها كثير من جثث قسسهم المقدسين يزورونهم في الكنائس، وهذا كثيرا ما يحجون إليها كما إلى بيت المقدس، وبها كنائس قديمة منها كنيسة على شكل أيا صوفية وقد طلعت على كنيسة أندريا وتفرجت على المدينة، وهي كثيرة الأشجار والحدائق يحيط بها نهر دينيبر، وهو من الأنهار الروسية الكبار، وحولها غابات كثيرة سوداء من بعيد، قلت:

لاتعجبوا إن كان أهل الروسيا *** أسـد الحـروب فأرضها غابات

إن فاتني في مصر أحسن روضة *** فلدى بلاد الـروسيا جنـات

وهي في جبل محصنة، وبها مدافع أخذ بعضها من حروب الترك موضوعة حول القلعة إظهارا لقوتهم، وإشعارا بشدة شكيمتهم، وقد قطعت طرقها بالعربية ومتعت ناظري برؤية مبانيها وحدائقها البهية، ورأيت فتاة بديعة الجمال تصيد بلحظها أرباب الجلال، وقد تدنس فسطانها فغسلته ثم بدلته، فقلت في ذلك:

وغـادة خـطرت فاقتـاد ناظرها *** قلبي فهـا هو مرتـج على الكفـل

ورفعت بيديهـا الذيل من طبـع *** أصـابـه تبتغي التنـظيف بالبلل

وبـدلـتـه سريعـا ً وهـي قائـلة *** هذا جزاء الـذي قد راغ من قلبي

ولما رأتني أديم النظر إلى حسنها، سمحت بإرسال رسول الصفا، فقلت وقد عراني انقباض وجفا:

مـذ أرسـلت ديوثهـا  لي عفتهـا *** خجلا ً وقـلبـي بالـعيان قنـوع

وأبيت حسن وصـالهـا مع حبهـا *** إن الـمحـبـة بالـوصـال تضيع

ثم لما قوضنا خيام الإقامة وعزمنا على الترحال، صارت تجري أمامي محلقة على دجاجة بيدها فقلت:

صادف فؤادي عند كييف رشيقة *** سـحرتـه بالنفثـات من شفتيهـا

قد سرت عنها وهو باقٍ عنـدها *** بث الهـوى الإيمـاءُ من عينيهـا

دجت على أثر الـدجاج وحلقت *** نحو الأمـام برفعـهـا  ليديهـا

فكـأن ذا منـهـا عـنـاق مودع *** لمـا رأت أنـي أمـيل إلـيهـا

ودائما تسمع في كييف دق الأجراس، وكذلك سائر البلاد، فإنها مشحونة بالكنائس خصوصا المدن، وقلت مكتفيا:

وسـامرتها والـليل مُرْخ ٍ ذيولـه *** علينـا كأنّـا قاضيان على الهوى

ومـذ سمعت صوت النواقيس هرولت *** تصلي فراعت مهجتي ضربة النـوى

النوى: مختصر من النواقيس.

ثم خرجنا من كييف يوم الإثنين 27 أيار".

وهكذا أمضى الشيخ محمد عياد الطنطاوي خمسة أيام في مدينة كييف، ساح بنا في شوارعها ناقلا ً لنا إعجابه بحدائقها وطبيعتها، ثم أكمل رحلته إلى بتربورغ مسجلا ملاحظاته وتعليقاته على كل مايراه ويشاهده في طريقه.

إن رحلة الشيخ نص أدبي وتاريخي لحقبة تاريخية مهمة في تلك الفترة، يمكننا من خلالها دراسة طبيعة المجتمع وعادات سكان هذا البلد وأساليب تفكيرهم وأدوات المعرفة المتوفرة لديهم.

مركز الرائد الإعلامي

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022