زيارة الشيخ محمد عياد الطنطاوي إلى مدينة أوديسا عام 1840م

نسخة للطباعة2011.05.20

بقلم: د. أمين القاسم - سيمفروبل

ولد الشيخ محمد عياد الطنطاوي في قرية طنطا المصرية عام 1810م، درس في القاهرة على يد جملة من شيوخ الأزهر المتنورين، من أمثال الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في 1840، والشيخ إبراهيم بن محمد البيجوري شيخ الأزهر.

وقع الإختيارعليه من قبل قنصل روسيا القيصرية في القاهرة ليكون مدرسا في مدرسة الألسن الشرقية في سان بتربورغ، والتي كانت بحاجة لمعلم للغة العربية، وكان رحالتنا مهتما بالدراسات الأدبية وله علاقات مع عدد من المستشرقين.

وقد وافق والي مصر محمد علي باشا على طلب القنصلية إيفاد الشيخ للتدريس في روسيا، واستدعي إلى ديوان الباشا وطـُلب إليه الجد في تعلم اللسان الروسي، لأن الوالي مشغول بجلب الألسن الغربية إلى مصر، ليعرف مدى التقدم العلمي والاجتماعي الذي وصل إليه بلاد الروس.

وصل الشيخ إلى روسيا 1840 م، ثم عاد إلى مصر بعد أربع سنوات واصطحب معه زوجته وابنه، وظل يعلم ويكتب في مدارس ومعاهد وجامعات روسيا إلى أن أصيب بالشلل في سنواته الأخيرة، ثم توفي عام 1861م في سان بتربورغ، ودفن بالمقبرة الإسلامية فيها.

كان الشيخ محمد عياد الطنطاوي يقضي إجازته متنقلا  بين البلدان الروسية، يطوف المتنزهات والغابات، ويحضر الاحتفالات الشعبية والرسمية، وقد حظي بعناية متميزة في الدولة الروسية، حيث عين مستشارا ً في الدولة الروسية، وقلّده القيصر وسام "ستانيسلان" ووسام "حنه" بسبب تميز طلابه كما ذكر الشيخ في كتبه، وقد تتلمذ على يديه عدد من المستشرقين الروس والفنلنديين، وله عدة مؤلفات في النحو والأدب والشعر والتاريخ والشريعة.

وبين أيدينا اليوم كتابه (تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا)، والذي عرض فيه لرحلته من مصر إلى سان بتربورغ ومذكراته في روسيا، ووصف لحالها وأوضاعها في ذلك الزمان وعادات وتقاليد الروس.

وسنلقي الضوء في هذه العجالة على وصوله إلى مدينة أودسا ومشاهداته وأشعاره فيما رأى، ثم في المرة القادمة سنكمل رحلته إلى مدينة كييف.

يقول الطنطاوي وهو في عرض البحر مبتعدا عن بلده مصر مستذكرا لقائه بواليها:

فاض جفـني بمـاء دمـع حميم *** لتـنـائي صحـابـة وحـمـيم

حيث فارقـت غير قال ٍ دياري *** ومبـاني علومـهـا والفـهـوم

ودعـانـي عزيز مصـر إليه *** وحـبـاني بالـعـزِّ والتكـريم

قال لاتُضـع زمـانـك إلاّ *** في اكتسـاب الـعـلوم والتعليم

فيمـينـا ً لأرحـلنّ سريعـا ً *** لبـلاد الشـمـال أفـق الـنسـيم

أنـا نجـم وكم بمصـرَ شموس *** ومع الشمس كيف مرأى النجوم

وفي البحر الأسود يقول وهو على متن السفينة التي تنقله من اسطنبول إلى البر الروسي:

الـبحـر أسـود والسمـا زرقـاءُ *** لكـنَّ  فيه سفـرتـي بيضاءُ

أنـا آنس من طيب وقتـي راقص *** ومـطيتـي  طنـانـة وغـنـاء

تشدو فيضطرب الصحاب بشدوها *** لكـنـنـي طرب ٌ فذاك غنـاء

ثم يكمل الشيخ متحدثا عن وصوله إلى الشاطئ الأوكراني وعن الإجراءات الصحية المتبعة خوفا من الطاعون: "ثم اتفق الإرساء عند ميناء أودسا غروب شمس يوم الخميس، ومدة السفر كانت أربعا ًوخمسين ساعة، فبتنا في الوابور، ثم توجهنا الصبح في زورق إلى محل على البحر، نظرنا فيه حكيم، وأمرنا بوضع أيدينا على آباطنا بقوة، وكل ذلك مع الحاجز، وذلك بعدما نظرونا ونظروا تذاكرنا مع القبطان. ذهبوا بنا إلى محل، أمرونا بالتجرد من الثياب جميعها، ثم ينظرنا الحكيم مقبلين ومدبرين، وفي هذا الوقت حصل لي خجل عظيم، ثم أخذنا ثيابا نظيفة غير ثيابنا من هناك، وهذا الملبس قميص ولباسان، وقفطان تتري، وطاقية، وطربوش طويل، كأن الشخص في هذا الملبس من التتر أو من رؤساء الغجر، وقلت إذ ذاك:

ويوم أودسـا جردونـي بدلـتـي *** فصـرت بلا ثوب ٍ كيوم ولادتي

لـبـست ثيابـاً غيرهـا فكـأنـني *** صغـير تبـدّى في قمـاط ٍ ولـفـةِ

ثم ذهبنا إلى المحل المُعد للإقامة، وهو مشتمل على عدة أوض كاملة الأدوات، محكمة البناء، وحيطانها بالورق المنقوش، وفي الظهر أحضر لنا الغداء وهو محكم، وخبز هذه المدينة نظيف ظريف إلا أن ماءها ثقيل الطعم كما قلت:

ولله  يـوم  أودسـا  وطـودهــا *** نطل على مرسـى به حفت السفن

وقد طاب عيشي في رباها ومرجها *** ولكـن طعم المـاء ليـس بـه حُسْـن

وذلك أنها على البحر الأسود المالح،وليس في نفسها ماء عذب إنما يجلب إليها من آبار أو عيون ،وتارة يشربون من الصهاريج المملوءة من المطر والعيون  البعيدة،ثم ذهبنا ثاني يوم وأخذنا ملابسنا الأصلية وأمتعتنا ،فوجدناها منشورة على أخشاب معطرة مبخرة..).

ثم يكمل الشيخ واصفا المدينة: "ومدينة أودسا أول ما رأينا من بلاد الموسقوب بل من بلاد الفرنج، وهي جديدة العمارة، منذ خمسين سنة، وازدادت عمارة منذ ثلاثين سنة، وكل وقت تزيد، وهي فرضة عظيمة من فرض الديار الموسقوبية، كثيرة التجارة والأمتعة فيها، وسائر الأشياء رخيصة بالنسبة لغيرها من بلاد الموسقوب، بسبب أنه لا جمرك فيها على البضائع الداخلة ترغيبا للمسافرين في الوصول، وهواؤها معتدل في الغالب، ولكن الغبار فيها كثير بسبب كثرة البضائع، فهي لا تنقطع من طرقها، وكانت الأيام طويلة أكثر من مصر، فكان النهار أكثر من ستة عشر ساعة، وقد قضينا هذه الأيام في الحظ واللعب في تلك المروج والتفرج على البحر والسفن فلا عيب فيها، إنها تعد من العمر كما قلت:

وأيام على أيام مصـر *** تطـول وغـينـها عنّـا محـجّب

ولست أرى بها عيباً سوى أن *** تعد عليّ  من عمري وتُحسب

ثم توجهنا إلى ديوان الجمرك، فنظروا الأمتعة جميعها، وأرسلوا الكتب إلى محل آخر ليمتحنوها، وهكذا يفعلون في كل الكتب والجرنالات الواصلة في الروسية، لابد من عرضها على محك البحث، ومنع ما لا يناسب منها، ولهذا ترى في الجرنالات بعض العبارات ممحوة بالسكين ثم بعد ذلك أخذت الكتب، وسكنت في موضع معد للغرباء متسع نير، وكل هذه المواضع التي للمسافرين كذلك، وكذلك البيوت وطرقها واسعة جدا، دائما يسمع قعقعة العربات ليلا ونهارا، وفيها منتزه على البحر يسمى "البولوار" وهو أربعة سطور طويلة من الشجر تمر الناس بينها للتفسح خصوصا في العصارى، وخصوصا في اليوم الذي يلعب فيه بالموسيقى مثل يوم الأحد، وفيه دكك لطيفة مثبتة لاستراحة المتفسحين، وعند طيب الهواء ليلا تذهب الناس وتجلس هناك على السلالم الكبيرة الموصلة للبحر لاستنشاق الهواء، وقد ذهبت هناك في ليلة سكن بها الريح واستروح بنسيمها العليل كل قلب جريح:

وطـاب ليَ الـنـسـيم فَرَقَّ حتَّى *** كأنـّي قد شكـوت ُ إلـيه ما بي

فجلست هناك أنظر إلى للبحر الأسود، وكان هاديا، وإلى القمر وهو كحسناء تارة تحت برقع السحاب، وتارة يلوح باديا:

البـدرمثـل جميلة تاهـت على *** عشّـاقـهـا فتـرقـبـوا الميعـادا

فيروح طورا ً تحـت سُحب براقـع *** ويلوح طورا ً حبّـذا إذ عادا

وعند هذه السلالم الكبيرة المبنية في وسط البولوار صورة رشيليي حاكم أودسا السالف، مادا يده إلى البحر، وواقفا على قاعدة عظيمة مرتفعة، وذلك أنه فعل أشياء نافعة للمدينة كأنه منشؤها، والعادة ببناء آثار لحفظ ذكر الاشخاص النابغين الذين فعلوا شيئا عظيما خارجا عن العادة.

وبالجملة فمنتزهات أودسا تشرح الصدر والفؤاد وتنسي الغريب هموم فراق الأهل والأولاد. وفي كل يوم ترى هناك الناس بكثرة من الرجال والنساء، وكل هذا ناشئ عن رفاهية البال وحسن الحال، وانتظام القوانين، وكثرة المُثرين".

وفي إحدى الحدائق تحدث شيخنا مع بعض الفرنج (على حد تعبيره) الذين كانوا يتحدثون العربية وكانوا في مصر، ومنهم فتاة تحدث معها، ثم قالت له بلهجة بلده "اقعد بعافية"، قال فيها:

فتـاة من الإفـرنـج تنـطق بالعرب *** فتـطربني ألفـاظهـا غاية الـطرب

لبـاقـة ألـفـاظ وسحـر لواحظ ٍ*** وثغر ٍ كنظم الُّدر أحلى من الضَّرب

تربَّت بمصـر بلدتـي ولـقيتهـا *** غريبين في مرسى اودسا فيا عجب

وقـالتَبلطف بعد طول تحدّث *** بعافية اقعـد سليمـا ً من العـطب

فقلت لهـا إني فديتـك راحـل *** غدا ً وفؤادي قاعـد عنـد من أَحب

وصادف رحالتنا في إحدى منتزهات أودسا فتاة روسية ببرنس عربي، فتذكر بلاده قائلا:

في أودسا بدت حسان الغواني *** يتبختـرن في ثيـاب الجمال

وأرى بينهـن فوق فتـاة *** برنسا ًمن ثياب عرب الرجال

أتراها بذلك اللبس ترمي *** لسـلامـي  بغـاية  الآجــال

فيها قد نسيت وحشة بُعدي *** وكأني بذاك بين الاهـالـي

أذكـرتني بمصـر كل رشـيق *** يزدري لحـظه بعين الغزال

آه  من عينـهـا وعـينـي وآه *** من جفـاهـا وصـدهـا المتـوالِ

وقال أيضا:

تبرنست في أودسا غادة ً حسنة *** من الفرنج نفت عني الكرا وسنَه

فهـل تشير إلى أنسي ببـرنسها *** وأنهـا مع مثلي تفعـل الحسنـه

ويشير في شعره إلى جمال المدينة:

ثم طاب الهواء وأحسن لي الدهـر *** فأرسيت عند سيف أودسا

بلد  تلتـقـي  إذا كـنـت  فيـه *** منزلا ً واسعا ً وخصبا ً وأنسـا

فيه تمشي الولدان والحور زهوا *** في جنان النعيم صبحا ً وأمسا

ثم إن اودسا تسمى باللغة التركية قواجه بيك، وهو اسم محل فيها إلى الآن.

هكذا سجل شاعرنا وشيخنا الطنطاوي مشاهداته في البحر وفي مدينة أودسا، ليعود بنا وبلغة شعرية عذبة إلى أكثر من مئة وسبعين عاما، ناقلا ومحللا ما رآه في عادات وطقوس سكان هذه المدينة الساحلية الجميلة، التي هي اليوم مدينة من أشهر وأهم المدن الأوكرانية.

مركز الرائد الإعلامي

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

التعليقات:

(التعليقات تعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس")

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022