مسجد "سيفاستوبل" جنوب أوكرانيا.. مثال لقبول الآخر!؟، أم نقطة بيضاء في صفحة سوداء!؟

مسجد "سيفاستوبل" جنوب أوكرانيا.. مثال لقبول الآخر!؟، أم نقطة بيضاء في صفحة سوداء!؟
منبر ومحراب مسجد مدينة سيفاستوبل جنوب أوكرانيا
نسخة للطباعة2012.07.13

كتبها: د. أمين القاسم - القرم

سيفاستوبل مدينة ساحلية تقع في جنوب غرب شبه جزيرة القرم على ساحل البحر الأسود جنوب أوكرانيا، أسسها الإغريق قبل الميلاد، وتعتبر حاليا المقر الرئيسي للأسطول البحري العسكري الروسي والأوكراني في البحر الأسود، وهي إقليم بحد ذاتها، لا تتبع لجمهورية القرم ذات الحكم الذاتي، رغم وجودها الجغرافي في الجزيرة.

يبلغ عدد سكانها اليوم 380 ألف نسمة (70% روس، 22% أوكران، 1.5% تتار قرميون).

حكم المسلمون القرميون والعثمانيون المدينة حوالي أربعة قرون، وكانت المدينة تسمى (أخيار)، وكانت مدينة صغيرة عامرة بالبيوت الحجرية الجميلة والمساجد والأسواق، وذات ميناء تجاري صغير مليئ بالنشاط والبضائع.

دخلت المدينة في حكم الإمبراطورية الروسية في عام 1774م، فعمد كثير من أهلها المسلمون القرميون والأتراك إلى تركها، ما أدى إلى انخفاض عدد سكانها المسلمين؛ والإحصائيات الروسية تذكر أنه في العام 1866م كان عدد سكان المدينة حوالي 10 آلاف نسمة، منهم 140 مسلم!!، وفي العام 1900م من بين 63 ألف نسمة كان عدد مسلميها 1000 فقط.

مع بداية القرن العشرين، ومع صدور قانون حرية التدين في روسيا القيصرية سنة 1905م، قام مسلمو المدينة بتقديم طلبات للسلطات المعنية للحصول على أرض لبناء مسجد في المدينة، والتي كانت بدون مسجد للمسلمين في ذالك الوقت بسبب إزالة المساجد التي تمت من قبل الروس بعد دخولهم للمدينة، وحصلت الجمعية الإسلامية في المدينة عام 1907م على قطعة أرض وترخيص ببناء مسجد.

بدأ العمل في البناء عام 1909م بأموال من أوقاف المسلمين وبعض المحسنين والحجاج، وانتهى العمل به عام 1914م (اللوحة الموجودة على جدرانه تبين انتهاء بنائه 1912م، لأنها كانت معدة مسبقا وتأخرت عمارة المسجد بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة في البلاد ونقص التمويل).

بني المسجد على الطراز المملوكي المصري، ومصمم البناء المهندس المعماري الروسي السيفاستوبلي أليكساندر فيازين، والمبنى مربع الشكل مبني من الحجر الأبيض، كان مزخرفا من الخارج بالزخارف والآيات القرآنية، وله منارة واحدة جميلة بشرفتين وبطراز مملوكي نادر في القرم.

وعلى مدخل المسجد كانت لوحة مكتوب عليها باللغة الروسية: "في ذكرى القيصر أليكساندر الثالث"، أعدها القيصر نيكولاي الثاني (1868 - 1918م)، الذي كان الافتتاح في عهده، فقد كتب هذه اللوحة في ذكرى وفاة والده.

حضرحفل افتتاح المسجد - الذي زين بالزهور والأعلام - في 20 نيسان/أبريل 1914م عدد من الشخصيات الرسمية، على رأسها عمدة مدينة سيفاستوبل، وحاكم ميناء سيفاستوبل، ومدير المنطقة، والقنصل التركي في المدينة، وعدد غفير من مسؤولي المدينة والمواطنين الروس.

وسمي المسجد "جامع أخيار" (كما كانت تسمى مدينة سيفاستوبل لدى القرميين) واعتبر المسجد في حينها معلما تذكاريا قوميا للإمبراطورية الروسية وذو صفتين مدنية وعسكرية، وعين له إمامان قرميان: مدني يوسف رحيموف، وعسكري (تابع لأسطول البحر الأسود) محمد زاهر زمالدينوف.

وتلحق بالمسجد مدرسة شرعية كان يدرس فيها عام 1913م 39 طالب.

في العام 1920م - وحسب الإحصائيات الروسية - كان يعيش في المدينة والقرى التابعة لها حوالي عشرة آلاف قرمي مسلم.

وبعد قدوم الشيوعيون واستيلائهم على المدينة تم في عام 1922م السيطرة على المسجد وسرقة محتوياته (من ثريات ومصابيح كهربائية وسجاد وغيره)، ورغم ذلك بقي المسجد سالما وتؤدى فيه الصلوات.

واستمر المسجد في أداء وظيفته، وفي العام 1928م كان عدد المساجد في إقليم سيفاستوبل مسجد واحد في المدينة، و24 مسجد في القرى التابعة له، كما كان فيه 25 جمعية إسلامية.

أما عدد المصلين في الجمعة والعيدين فقد كان عام 1932م يتراوح بين 600 - 1000مصل، يتوافدون من المدينة والمناطق المجاورة، وهذا ما ساهم في تأخير إغلاق المسجد رغم التضييق على الأئمة من قبل الحكومة الشيوعية.

في أكتوبر 1937م تم اعتقال إمام المسجد يوسف رحيموف ليقدم للمحاكمة بعد شهر وليحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص، ثم ليبدل الحكم إلى السجن لمدة عشر سنوات، وقد توفي - رحمه الله - في السجن عام1943م، وكان قد تعرض قبل ذلك للعديد من محاولات الضغط الاجتماعي والاقتصادي ليترك اهتمامه وإمامته للمسجد والتمسك ببقائه، ثم ليغلق المسجد بعدها بعام، ويتحول إلى مستودع، ثم دار للعرض السينمائي، ثم مقرا لأرشيف أسطول البحر الأسود السوفيتي.

وقد تعرض المسجد خلال الحرب العالمية الثانية إلى أضرار كبيرة، حيث تعرض للقصف النازي الذي أدى إلى تهدم وحرق قبته وبقيت منارته شامخة بطرازها المملوكي الجميل حتى عام 1948م عندما قام الشيوعيون بهدمها واستئصالها من مكانها بواسطة دبابتين قامتا بسحبها وسحقها.

لقد هدمت المنارة حتى يمحى من ذاكرة الناس أن المكان كان مسجدا، ولينزع من قلوبهم الارتباط بالإسلام، وقام الشيوعيون في العام نفسه بإزالة وطمس الزخارف والكتابات العربية وحتى الروسية الموجودة على جدران المبنى.

وبعد استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي عام 1991م، وعودة المسلمين إلى القرم من المنفى، بدأ المسلمون في سيفاستوبل بإقامة صلاة الجمعة أمام باب المبنى وعلى عتبات درجاته، وبعد مفاوضات مع إدارة المبنى والسلطات المعنية سمح للمسلمين في تموز/يوليو من عام 1992م بإقامة صلاة الجمعة في الطابق الثاني من مبنى المسجد، وفي عام 1994م تم تسليم المبنى للجمعية الإسلامية في المدينة بعد إفراغه من الأرشيف الحربي.

خضع المسجد للترميم عام 1995م، وفي عام 2000م أعيد بناء مئذنته بأيدي وأموال تركية.

ومازال المسجد حتى اليوم الوحيد في المدينة، ويحضر صلاة الجمعة فيه حوالي 300 شخص، كما ويدرس في المدرسة الشرعية الملحقة به عشرة طلاب، والمسجد لمن أراد زيارته يقع في وسط المدينة، في شارع كولاكوفا 31.

فهل يعتبر عمل الحكومة الروسية في تقديم الأرض ومنح التراخيص للبناء وصبغته بطابع المعلم التذكاري القومي، والحضور الرفيع المستوى في حفل افتتاحه في ذلك الوقت، هل يعتبر مثالا لقبول الآخر!؟، أم أنه مجرد نقطة بيضاء في صفحة سوداء!؟

أوكرانيا برس

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

التعليقات:

(التعليقات تعبر عن آراء كاتبيها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي "أوكرانيا برس")

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022