لن نرحل.. هكذا ردَّ مسلمو القرم على ممارسات بوتين القمعية

نسخة للطباعة2016.08.20

لطالما عرف تتار القرم في بلدة "باختشي سراي" الطباخَ المرح رمزي محمدوف، وأنه خير من يطبخ طبق "البلوف" التقليدي والمكون من الأرز ولحم الخروف. أطباقه اللذيذة كانت محببة بالذات لدى مسلمي القرم الذين كانوا يؤمون مسجد البلدة للمشاركة في الاحتفالات الدينية.

لكن أحداً من أهالي البلدة وجاليتها التترية الكبيرة لم يخطر بباله يوماً أن يُتهم طباخهم المحبوب بتهمة الإرهاب!

كان ذلك في الـ6 صباحاً من الـ12 من مايو/أيار عندما قُرِع باب بيت عائلة محمدوف الكائن في جادة لازورنايا. سُمِع الطارق من الخارج يهتف "افتحوا الباب، هنا الأمن الفيدرالي!"

كان الطارق جماعة من الزوار هم محققان من الأمن الفيدرالي، وشاهدان رسميان دعتهما وكالة الأمن الفيدرالي لحضور عملية تفتيش المنزل، ومصورة كاميرا، وعدة أشخاص لم يعرفوا عن أنفسهم.

بعد بضعة أسئلة فتش الزوار أنحاء المنزل وغرفه، وصادروا بعض الكتب الدينية وأقراص مدمجة.

وبينما المحققون يقتادون محمدوف للاعتقال تجمهر الجيران حول موظفي الأمن الفيدرالي ليسألوهم عن سبب اعتقال طباخ ظريف يحبه الكل، فقال أحد المسؤولين أن محمدوف لن يغيب سوى بضع دقائق لتوقيع بضعة أوراق بحسب تقرير لصحيفة "دايلي بيست".

سرعان ما بدأ جمع الجيران بالهتاف "يا للعار يا للعار!"، وسرعان ما تحقق أسوأ مخاوفهم، إذ علمت زوجة محمدوف وابناه الكبيران بأنه متهم بالمشاركة في نشاطات إرهابية ضمن الحركة الإسلامية "حزب التحرير" المحظورة في روسيا.

لم يكن وحيداً، بل اتُهِم كذلك 3 من الجيران أو أكثر معه واعتقلوا جميعاً في نفس اليوم. أحدهم ويدعى أنور ماموث لديه 7 أطفال صغار.

بعدما ضمت موسكو منطقة القرم إليها عام 2014، وقد كانت أرضاً أوكرانية، عجلت وكالات وأجهزة الأمن الروسية بقمع المسلمين وملاحقتهم هناك؛ وبعدما اعتقل الكثيرون منهم بات معلوماً تماماً لدى هؤلاء أي مصير ينتظر معتقلي الأمن الفيدرالي.

ملاحقة مسلمي "التحرير":

موقع الديلي بيست الأميركي أجرى لقاءات صحفية مع عدة عائلات تترية اختفى احبتها العام الماضي؛ فشكواهم تتلخص في أن الاعتقالات والاختطافات والتهم الجزافية والتعذيب أصبحت جميعها جزءاً من حياة شبه جزيرة القرم اليومية.

واليوم أصبحت ملاحقة مسلمي "حزب التحرير" في القرم جزءاً من حرب بوتين الجديدة الكبرى على الإرهاب والتي انطلقت في أقاليم الأورال وسيبيريا والقرم المغتصبة ووسط روسيا.

في بلد تعج بالمؤامرات والجرائم الكبرى التي لا تلقى حلاً ولا جواباً، حيث أجهزة الأمن تعمل دون رقابة من رجال السياسة وبعيداً عن أعين المجتمع المدني، فإنه يصعب جداً على أي أحد أن يعرف على وجه الدقة ماهية هذه المخططات والحوادث "الإرهابية".

الغموض الذي يكتنف حرب بوتين الحالية على الإرهاب يلف تماماً كم من التهديدات حقيقي وكم منها ملفق مفتعل لغاية في نفس يعقوب.

آلاف الحالات:

يقول ألكسندر تشيركاسوف رئيس مجموعة Memorial للدفاع عن حقوق الإنسان في مقابلة له مؤخراً مع الديلي بيست "أحياناً تعمد الأجهزة الأمنية إلى ملاحقة الناس لأغراض وغايات ما، وقد وثقنا آلاف حالات خطف أو قتل المسلمين شمال القوقاز. أحياناً يكون هناك تهديد إرهابي حقيقي. لكن علينا توخي الدقة والحذر عند النظر في كل حالة".

يوم الأربعاء استيقظ الروس على خبر تهديد إرهابي وعلى أصوات الانفجارات هزت وسط مدينة سانت بطرسبرغ. هرعت 20 مركبة تابعة للأجهزة الأمنية لمحاصرة وتطويق مبنى شقق سكنية في منطقة لينينسكي، وعند الساعة 11:20 صباحاً سمع السكان صوت انفجارين ورأوا دخاناً يتصاعد من أحد الشبابيك، ثم رأوا رجالاً تلثموا بأقنعة غاز قد خرجوا إلى شرفة أحد الشقق.

قالت السلطات الروسية عن الحادث، إنها قتلت 4 إسلاميين مسلحين في عملية خاصة؛ ونقلت وكالة الأنباء الروسية RIA.ru أن أجهزة الأمن في جمهورية كاباردينو- بالكاريا الروسية، قد طلبت من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي اعتقال وتوقيف مجموعة زعمت أنها مسلحون من شمال القوقاز دخلوا سانت بطرسبرغ.

الأمن الفيدرالي قال إن العملية أسفرت عن مقتل هؤلاء وأيضاً عن اعتقال 3 مسلحين. لكن وكالة الأنباء الروسية RIA.ru نقلت أن وكالة مكافحة الإرهاب في جمهورية كاباردينو-بالكاريا رفضت التعليق على العملية الخاصة يوم الأربعاء.

وفي شهر إبريل/نيسان الماضي أعلنت مسودة قرار للمجلس الأوروبي، أن الوسائل التي يستخدمها الأمن الفيدرالي الروسي شمال القوقاز لطالما أقلقت دعاة حقوق الإنسان على مدى سنوات وذلك بالنص "ما زال أعضاء أجهزة الأمن والشرطة يلجؤون إلى وسائل غير شرعية كالخطف والاعتقالات السرية والإعدام بدون محاكمة والتعذيب، كما أنهم مستمرون في التمتع بحصانة شبه تامة".

الدور على أوكرانيا:

الآن يتحدث رئيس الكرملين عن تهديدات إرهابية جديدة منبعها أوكرانيا. فالأسبوع الماضي اجتمع بوتين مع كبار القادة العسكريين وضباط الاستخبارات من مجلس الأمن الروسي ليتهموا أوكرانيا بالتخطيط لهجمات إرهابية وبمقتل ضابطين روسيين في القرم قبل يوم واحد؛ وقال بوتين إن روسيا لن تصفح عن فعائل أوكرانيا هذه وأعلن عن تعزيزات للقرم وعن شن مناورات عسكرية وعن مراجعة "سيناريوهات التدابير الأمنية في مكافحة الإرهاب" ليس فقط على طول الحدود البرية بل في البحر والجو أيضاً.

في هذه الأثناء وفي غرب سيبيريا اكتشف الأمن الفيدرالي الروسي "شبكة عالمية للدعاية الإرهابية"، وفي الأسبوع الماضي وفي نفس اليوم الذي صادف اجتماع مجلس الأمن الروسي، فتش الأمن الفيدرالي 26 شقة على الأقل واعتقل ما لا يقل عن 96 شخصاً في كل من أقاليم تيومن بسيبيريا وسفيردلوفسك بالأورال وتشيليابينسك شرق الأورال.

يقول إيغور بونين من مركز التقنيات السياسية (مركز دراسات سياسية بموسكو) "كما ترون إن على الأمن الفيدرالي الروسي برهنة قدرته على العمل بجد وإيجاد الإرهابيين. أتوقع أن غالبية الموقوفين هم من السلفيين لكنهم ليسوا مجندين لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)".

ولكن هناك شيئاً آخر هو ما حدثت الديلي بيست به الباحثةُ في مجموعة الأزمات الدولية بإسطنبول كاتيا سوكيريانسكايا "في الأعوام الأخيرة التي تطرف بها مسلمو روسيا كانت هناك حالات جهاديين غادروا إلى سوريا من مناطق سيبيريا، منهم مسلمون من الجاليات المسلمة المحلية ومنهم مسلمون وفدوا إلى سيبيريا للعمل".

يبدوا أن الإرهابيين في كل مكان داخل وخارج حدود روسيا، لكن الاتهامات الموجهة لأوكرانيا تبقى الأكثر إشكالية من عدة زوايا.

إلصاق الإرهاب بأوكرانيا:

فبوتين ما عاد أتى على ذكر أوكرانيا إلا وألصق بها صفة "ممارسة الإرهاب" وكأنها دولة داعمة للإرهاب راعية له، ولم يعد بين رئاسة الدولتين "سلام ولا كلام".

ويبدوا أن آمال الكرملين بحل مسألة أوكرانيا وبرفع بعض العقوبات الاقتصادية عن روسيا قبل نهاية العام جميعها اضمحلت ووضعت جانباً، حيث يجد بوتين من العبث العقيم التباحث مع أوكرانيا "الإرهابية".

محللون كثر يرون وراء هذه الحركة تهديد حرب مبطناً وأن ثمة سابقة تاريخية كثيراً ما تُذكر ويُستشهد بها.

ففي مايو/أيار 2008 كان الكرملين قد قرر قطع العلاقات مع الرئيس الجورجي آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي، ثم في أغسطس/آب اندلعت حرب روسيا مع أوكرانيا، فيما توغلت الدبابات الروسية داخل الحدود الجورجية صوب العاصمة تبليسي قبل إبرام اتفاق هدنة.

لكن هذه المرة من الصعب أن تجد أحداً في موسكو يصدق أن الكرملين متأهب لحرب أوسع في أوكرانيا لأن ذلك من شأنه إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة.

أما عن تبجح بوتين العسكري فهناك عدة علامات تشير إلى أن القيادة العليا تشعر بقلق، فالظاهر أن بوتين فقد ثقته بكبار قادة فريقه، حيث الجمعة الماضية أقال رئيس إدارته وحليفه القديم وزميله المخضرم من أيام المخابرات السوفييتية القديمة والمخابرات الفيدرالية الجديدة، سيرغي إيفانوف.

يقول يوري كروبنوف المحلل السياسي المقرب من الكرملين في حديث للديلي بيست "إيفانوف يرمز لفريق بوتين القديم الذي كانت تعوزه الاستراتيجية ولا يتصرف إلا بتكاسل وتثاقل".

الإرهاب من جهة أوكرانيا

أما بوتين فغرامه تقمص لغة الغرب ومن ثم استخدامها ضد سياساته؛ وهكذا في سوريا وبينما يدك خصوم الأسد المدعومين غربياً، تراه يدعي محاربة الإرهابيين؛ والآن يقول إن روسيا يتهددها الإرهاب وأنه سيحاربه تماماً كما يفعل الغرب، لكن في حالة روسيا فالتهديد قادم من جهة أوكرانيا.

يقول تشيركاسوف "الحرب على الإرهاب هي الموضة الدارجة، فوقعُها جِدِّيٌ على مسامع الغرب وعلى الكثيرين في روسيا".

وفي السنتين الأخيرتين اتهم عشرات الأوكرانيين بالتخطيط أو بالمساعدة في هجمات إرهابية، وهناك على الأقل 4 منهم حالياً يحاكمون في بلدة روستوف -أون- دون الروسية الجنوبية المحاذية لأوكرانيا.

وقد اعتقل الأمن الفيدرالي 7 مشتبه بهم في التورط بـ"هجوم إرهابي" مزعوم في شبه جزيرة القرم قال الأمن الروسي إنه وقع في 7 أغسطس/آب.

بدأت كل من موسكو وكييف مناورات عسكرية بقرب البحر الأسود، وأقرت روسيا بأنها نشرت أنظمة مضادات صواريخ S-400 في القرم وعززت دفاعاتها هنالك.

ضغوط الأمن على بوتين:

يقول بونين "أعتقد أن الأمن الفيدرالي وضع كثيراً من الضغوط على بوتين بعد هجمته على القرم، لكنه لا يحبذ خوض حرب حقيقية مع أوكرانيا الآن لأن الاقتصاد الروسي يتدهور".

وفي تلك الأثناء أوعز الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو إلى قواته التأهب تحسباً لقتالٍ مع الجيش الروسي في أية لحظة.

في الأشهر الأخيرة أقضت حرب الأمن الفيدرالي الروسي على الإرهاب مضجع مسلمين كثيرين شمال القوقاز وفي الأورال؛ فالشهر الماضي عوقب 5 مسلمين بالحبس في جمهورية باشكورتوستان الواقعة في جبال الأورال، لكن الواقع أن مسلمي القرم ذوي الأغلبية التترية هم الذين في واجهة فوهة المدفع، ففي وقت سابق من هذا العام اتهم 14 مسلماً من القرم بـ"تدبير نشاطات إرهابية".

ماذا عن الطباخ المرح رمزي محمدوف؟ لقد اعترف تحت وطأة التعذيب على الأغلب أنه كان عضواً في حزب التحرير، فقررت محكمة القرم إبقاءه رهن الاعتقال حتى موعد الجلسة التالية في أكتوبر/تشرين الأول.

يقول ديليافير محمدوف، ابن محمدوف البكر، في محادثة هاتفية مع الديلي بيست "في البداية مددوا فترة اعتقاله من "15 دقيقة" إلى شهرين، ثم أكبر الظن أنهم أدركوا غياب الدليل ضده فاستبقوه وراء القضبان شهرين آخرين، فإن وجدته المحكمة مذنباً ساعتها سيقضى أكثر من 10 سنوت في السجن".

مغادة شبة الجزيرة:

سلسلة الاعتقالات هذه ذكرت مسلمي القرم بترحيلات عام 1944 حينما اتهم الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين كل الجالية بالتواطؤ مع المحتل النازي فأمر بترحيل 100 ألف من التتار على قطارات المواشي لتنقلهم خارج شبه جزيرة القرم التي لطالما استوطنوها عبر التاريخ على شاطئ البحر الأسود، ليتم ترحيلهم إلى وسط آسيا.

أما هذا العام فقام الأمن الفيدرالي بالتحقيق في أكثر من 2000 حالة ذات صلة بالأنشطة الإرهابية.

يقول آنطون ناومليوك، الصحفي المحقق في إذاعة راديو Radio Free Europe متحدثاً للديلي بيست "إن النظرية القائلة أن كل تطرف إسلامي يقود للإرهاب تستهدف التتار في 3 أقاليم ضمن القرم لإجبار الجالية على مغادرة شبه الجزيرة".

ففي هذا العام تابع ناومليوك أكثر من 12 حالة لهؤلاء "الإرهابيين" الروس الجدد، وقال "اعتقالات الأمن الفيدرالي الروسي زادت جالية مسلمي القرم اتحاداً".

والتتار يوافقونه الرأي، إذ يقول ديليافير محمدوف للديلي بيست "لن يغادر أحد منا القرم ثانية، فجاليتنا عانت الترحيل والمضايقات بما يكفي."

روسيا أيضاً تبدو متحدة صفاً واحداً بخصوص محاربة أوكرانيا حرباً حقيقية، فهم متحدون رفضاً لها، وحتى تهديدات الإرهاب المزعومة لا تفلح بإقناعهم، على الأقل لا تقنع مستمعي إذاعة "صدى موسكو" بأن للحرب أي جدوى، حيث أظهرت استبيانات الرأي العام التي أجرتها محطة الراديو الأسبوع الماضي أن 82% من الروس هم ضد قيام الجيش الروسي بأي عمليات هجومية داخل أوكرانيا.

يعني خلاصة القول أن الجيش على الأغلب لن ينتشر، لكن الأمن الفيدرالي الروسي سينشط أكثر من أي وقت مضى.

- هذا الموضوع عن موقع The Daily Beast الأميركي. ومترجم من قبل هافينغتون بوست عربي. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

اشترك في قناتنا على "تيليجرام" ليصلك كل جديد... (https://t.me/Ukr_Press)

حقوق النشر محفوظة لوكالة "أوكرانيا برس" 2010-2022